أن تعيش على أرض الجنة ما وراء البحر، فأنت تحت طائلة الاتهامات المختلفة حتى تثبِتَ براءتك أو تقضيَ بقية أيامِكَ مطاردا في الفلوات، أن تقدم على جريمة التفكير فقد حكمتَ على نفسك بالإعدام المعنوي كلَّ يوم، أن تقول كلمة: لا؛ فقد وصلت إلى نقطة اللا-عودة في عداوة القراصنة، أن تحاول التخطيط لحياتك وتنفيذ ما وضعته مِن خطط، فأنتَ كَمَن يطلب النجاة مِن فم الضرغام، أن تكتب، فتلك عملية لا يقوم بها سوى المغامرين الذين يبحثون عن زنزاناتهم الفردية، أن تدرس الفلسفة، فأنتَ تعشق الثرثرة لا محالة، أن تكون معلِّمًا، هذا يعني أنَّك في قلب المجتمع وقالب الفقير، أن تتمرَّد على عادات القراصنة البالية وتقاليدهم المثقوبة، فأنتَ بلا شك مجنون حتى النخاع، وأن تقوم بكل ما سبق دفعة واحدة وعلى مدى سنوات، فأنت حفيد الثوار، ماكيزار بالفطرة وعُملة نادرة لا تتكرر كل حين في كلِّ زمن.
أخذ الأستاذ ماركيز حمَّامًا ساخنا، وتحت ضجيج البنَّاء الذي أتى به أبوه إلى منزلهم، راح يتقدَّم بخطوات متثاقلة نحو غرفته ذات النافذة المطلة على السلالم، جلس على سريره الواسع المزيَّن بزخرفات تقليدية على الطريقة الرومانية القديمة، فانغمس في تأمُّل صورته التي انعكست على مرآة الخزانة الخشبية ذات الطراز الكلاسيكي، أخذ يبحث بعدها عن سيجارته التي أشعلها بمجرَّد أن وصلت أنامله إليها، ثمَّ عاد للتأمُّل مِن جديدٍ، مرَّت أمام ناظره وقتئذ صور مختلفة مِن ماضيه، مواقف متنوعة جالت في ذهنه، عاد إلى مراجعة نفسه، بينما كان دخان السيجارة يفعل فعله في صدره، لينتزع منه سعالا حادا، ذلك الذي قطع فترة راحته لوهلة ليست بالطويلة.
يعتمد الأستاذ ماركيز على ما يصل عقله بشكل كامل وحتمي، وصفه بعض الجهلة بأنَّه متعصب للعقل، والبعض الآخر مِن القراصنة يرون فيه سذاجة تفوق الخيال، بينما أطراف مِن العائلة يسمونه بالمتخلِّف (Mghandèf)، وهي كلُّها أوصاف تُطلَقُ على النبلاء الذين يرسمون أيامهم بريشاتهم الخاصة على أرض تعاقب هؤلاء بقسوة، لأنها ترى فيهم أتباع ذلك المتحرر مِن نزلاء كهف أفلاطون؛ لأنَّ الجنة ما وراء البحر ليست نعيما للأحرار الأبرار مهما كانت مشاربهم وتوجهاتهم.
لا يعيش الإنسان سوى حياة واحِدة قبل الرَّحيل النهائي عن هذا العالَم، فكيف يقضيه في استنساخ حيوات الآخرين، ومحاولة مطابقتها مع أيامه؟
هذا ما جعل الأستاذ ماركيز ينهي سيجارته بسرعة، بعدها ارتدى بذلة أنيقة رمادية اللون، تتوسطها ربطة عنق حمراء، وضع قبعة ذهبية اللون على رأسه مزينة بشريط أحمر أيضا، حمل حقيبته أو حقائبه – لا أدري، وخرج مِن بيت – أبيه نحو المجهول، فهو لا يزال يحلم ببعض ما يعتبره القراصنة جنونا، دهشة، خروجا عن تعاليم الكنيسة وحتى تمردا على الطريق السليم الذي يقود القرصان نحو الغرق في رفاهية الاعتداء على حرمات الإنسانية بلا مبالاة.
يرغب ماركيز بأن يطيل شَعر رأسه حتى يصل أسفل كتفيْه، قبل أن يسرِّحه على طريقة اللاعب السويدي زلاتان إبرهموفتش، يرغب بتدخين سيجار رهيب وارتداء بذلة تزينها ربطة عنق الفراشة، وهو جالس إلى طاولة عليها زجاجة ويسكي فاخرة، حيث يستطيع أن يرتشف منها ما أراد وقتما يشاء، أن يرسُم على جسمه الوشم الذي يراه مناسبا وأن يرقص تحت المطر كلَّ شتاء، وقبل هذا وذاك، هو يرغب في زواج بسيط بلا حفلات، ليؤسس بيتا بلا تدخلات مِن أحد، أو مراقبة مِن أولئك الذين يكنون المحبة له منذ سنين.
بعد ركوب الأستاذ ماركيز سيارته الفرنسية الصنع، تجرَّد مِن كلمة أستاذ، نظر إلى المرآة العاكسة للسيارة وقطع على نفسه عهدا بتحقيق ما يدور في خياله، أدار المحرِّك، ثمَّ انطلق بسرعة جنونية جعلته يتبخَّر، يَنسى العائلة التي أرادت تزويجه بإحدى إناث القراصنة، فدفعته هذه الخطوة نحو قطع أذرع أخطبوط الأسرة الصغيرة التي لطالما خنقت أمانيه إرضاء للذي لا يرضى، لتتركه ذئبا عاريا مِن كلِّ شيء على أرض قارسة البرودة، بعدها تمَّ محو وجوده مِن ذاكرة كلِّ مَن عرفه مِن القراصنة دون استثناء، ليزول، لينتهي نحو العَدَم، مطبِّقًا ما قاله أحد شعراء بيت المقدس: تُنسى وكأنَّك لم تَكن.
https://www.youtube.com/watch?v=FKpKGj18iiQ