تزور الشقراء الكيلايوس من أجل إظهار مفاتنها، لكنها ترتبك، تعيد الاستراحة لأكثر من مرَّة على عتبة باب هيبة سمينثوس، تتبرَّك بلحافها الشقيّ مرارا، لعلَّ رمال تينيدوس تشفع لها مجيئها، فتنتعش على طريقة تعويذات خروسيس العتيقة، تعيد الشقراء إنتاج خروسيس بتقنية الأبعاد الثلاثة، تستحضره في داخلها لتسأله عن مأمنها وأمانها بين قطع أحجار تتساقط من أعالي الأليمبوس المعاصر، فتسأل ذاتها عن تساليا الخاصة بها؛ عن ذلك البربريّ الذي يسكنها، عن أطراف شَعرها التي وصلت أقاصي أطراف خروسي المقدّسة، لتصبح بذلك أمرا واقعا، فعلى شفاهها ما بقي لها من نذر حملته مع آخر مذاقها قبل رمضان الكريم، في تلك الجلسة العلنية العلمية، في ذاتها كل جلساتها مع بربريته معها، هي كجلسات هيرا مع زعيم الآلهة.
وقفت الشقراء بعدها، أخذت تلك التنهيدة بداخلها وقتا أطول من العاديّ بالنسبة لأمثالها، نعم هو كنغم! لقد تذكّرته، تذكّرت شعيرات أفكاره، تذكّرت حجم مايكل الخاص به، بعدها اقشعرّت قشعريرة نُسطُور وهو في قلب لهيب الوغى، فقلبها رهينة لا يمكنها أن تفلت من سجنه الطليق، من أسره المطلق، هو لها وهي له، كما حدث في البداية تماما، وعندها سمعت المنادي ينادي قائلا: "من الشعراء اعتبر المتنبي قطبا عالميا بشِعره المعجز حقا، نزار القباني عبقري اللغة دون مبالغة، تميم البرغوثي ذا اللسان السليط وجرير خبَّاز اللغة العربية بامتياز... وغيرهم كثير.
مِن النثر أجد عبقرية لا حدود لها في كتابات نجيب محفوظ، أسامة فوزي وأسماء سنجاسني... وغيرهم كثر أيضا"[1].
وعندما لمحها أقبل نحوها قائلا بصوت خافت ما قاله جبران خليل جبران يوما: "لأنَّكم لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقَّها من التأمّل والتفكير، لما كنتم ترون آلامكم أقلَّ غرابة مِن أفراحكم".
هُو لقاء الثقة بالألم معبِّرا عن اتجاهيْن، الأوَّل انعدام الثقة وحضور الألم، يجعل الفرد الإنساني محاصرا، مكبوتا، مضغوطا، مسترسلا في ألمه، فلا يجد له أيّ مخرج يعبِّر به عن ذاته، وهي بالذات عملية صعبة وقاسية، يستخدمها البعض من أجل اشفاء غليل البعض الآخر، لكنّه يجعل من الجميع أدوات ضدّ الجميع، فلا يكون أمام فاقد الثقة فيما حوله سوى الانحسار، وحمل ما هو فيه من أجل الاقتران بما هو غامض من حوله.
الثاني: هو اكتساب الثقة وجلاء الألم، حتى ولو حضر، فإنّ المظهر الذي تتخذه الثقة عينها في هذه الحال هو السكون، قليل من الغموض مقارنة بغيابها حتى بغياب الألم، وهذا ما يدفع الإنسان إلى تعديل المسار، وحمل مقتضياته إلى منافذ كثيرة، لعل أبرزها مرتبط بما هو قائم على انعكاس المجرى الشعوري الناتج عن الإحساس بدافع الثقة، والمتوجه إلى منابع الألم، من أجل التغطية عليها أو اخفائها، وهي كلّها عمليات داخلية تتلاطم بشكل أكثر سرعة عندما يكون أمام الإنسان حزمة تحدّيات عليه معالجتها.
مزوار محمد سعيد
مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو