يتفطَّن مالك بن نبي (الصدِّيق) كما يسميه المقربون منه، إلى أنَّ المجال المعنوي هو الأهمّ حينما يتعلَّق الأمر برصف الحوافز من أجل تحريك المجتمع، وهي بذلك عبارة عن عقيدة تدفع بعجلة المجتمع إلى الحركة، فيعطي أمثلة مهمَّة عن ذلك مثل روما وبَدر، في حين أنَّه يشير بوضوح أيضا إلى لحمة المجتمع التي يتمزَّق عبر اتجاه أفراده فينساق إلى الانعزال، وإعطاء الأولوية لمصالحهم الشخصية على حساب المصالح العامّة، وهذه الفكرة بالتحديد من أفكار ابن خلدون عبد الرحمان، الذي رأى أنَّ زوال المجتمع المتماسك يكون بزوال العصبية القبلية.

العودة إلى التناحر على شاكلة "الجاهلية الأولى" حسب مالك بن نبي هي نتيجة آلية لابتعاد الفرد المسلم عن فكرته الثابتة، والتي هي الفكرة الغيبية التوحيدية، تلك التي تسكن روح المسلم، وتحرِّكها بفعالية تامة حينما تقتضي الضرورة لذلك، من هنا يعمد العالَم الغربي إلى سلب الفكرة الميتافيزيقية الإسلامية عنصرها المحرِّك، واستبدالها بمجموعة من الأفكار المثبطة، لسببيْن يشرحهما مالك بن نبي بإسهاب؛ الأوَّل هو افقاد المجتمع المسلم طابعه الحَرَكي، الثاني هو تشتيت القوى التي تنتج عن قريحة العالم المسلم الفكرية، حيث تتعدّد الأفكار لتنتج تعددا للطاقات التي تتصارع فيما بينها في معظم الأوقات.

"ولو عاش أفلاطون في زمننا لأتيحت له الفرصة أن يضيف لأسطورته صوتا يتخافت ويهمس همسا: صوت الملقن أو المفسّر الذي يدلي بالتفسيرات، أو بوجه أدق يدلي بالإيحاءات لأصحاب الغار ليزيد في خبالهم خبالا" (مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمَرَة).

عندما تتصارع المرجعيات الدينية والقوميات الألسنية على أطراف العالَم المسلم حسب مالك بن نبي، فإنَّ الاستعمار يوجهها، محاولا إبقاء لغة الفتنة مسيطرة عليها، وذلك من دون أيّ أثر له – هنا أنا أساند نظرية المؤامرة بشكل واضح – وعليه فإنَّ الاستعمار يلعب دور المحرِّض أو كما أسماه مالك بن نبي بـ: الملقن، أو في صورة رجُل دين يكون عبارة عن: مفسِّر، من أجل قيادة جيوش المتصارعين بعيدا عن مناطق التصنيع والاقتصاد الأوربي والأميركي، وهي بذلك استمرار لتوصيات لورنس/العرب، التي برق بها إلى العرش الإنجليزي، في غفلة تامة وسبات لا نظير له من العالَم المسلم، الذي ينقاد لأيَّة فكرة إن ما لبست عباءة ولحية، كما أكَّد على ذلك محمد أركون رحمه الله.

لقد عمد الاستعمار في نظر مالك بن نبي إلى تصفية كلِّ مقوِّمات الحركة لأيِّ مجتمع من المجتمعات المسلمة، وراح يضع أمامها المطبات والعراقيل، بداية بصناعة زعامات لها بعيدة عن الكفاءة القيادية، مرورا بزرع نخب تقدِّمُ للاستعمار الولاء التام والمطلق، وانتهاء بزرع ثقافة اليأس بين الأجيال المسلمة رغبة منه في توجيهها عن بعد، ولقد نجح في ذلك بشكل عميق، بل تعدى ذلك فهو الآن يحاول سرقة الوقت "الزمن"، هذا الذي جعله مالك بن نبي أحد الركائز الجوهرية من أجل صناعة أعمدة الحضارة.

يعتبر مالك بن نبي أنَّ أدوات الاحتلال على الأرض المسلمة تكون فعَّالة على فترات أكثر من فعالية الأداء الاحتلالي المباشر، وربط هذه الفكرة بمدى صلابة الإيمان بالثقافة الإسلامية، إذ يضع نقطتان على طرفيْ النقيض في هذه المواجهة، لأنَّ "الثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد، كما أنَّها مجموع من القواعد الأخلاقية والجمالية... الخ" (مالك بن نبي، ميلاد مجتمع).

ثمَّ يتوقَّف عند فكرة الثقافة بشكل مركَّز لما لها من أهمية كبرى في تأصيل وتوجيه العالَم المسلم، حيث يفرد لها كتابا خاصا بعنوان: مشكلة الثقافة؛ وفيه يدرس مالك بن نبي كيفية تشكُّل الثقافات، وكيفيات تمايزها عن بعضها، ليتوصَّل إلى تعريف الثقافة، وكنتيجة تجده يعطي أهمَّ الطرق وأيسرها لبلوغ العالمية بدل العولمة.

………………….

"لولا الولايات المتَّحدة الأميركية، لتحدَّث الفرنسيون باللغة الألمانية" هكذا غرَّد الرئيس الأميركي السابق رقم خمسة وأربعون دونالد جون ترامب، على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد نقل هذا التصريح موقع قناة "يورو-نيوز" الأوربية بواسطة مراسلها من فرنسا، الصحفي محمد شعبان يوم: الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة ألفيْن وثمانية عشر.

بالنسبة لي كجزائري، تُعتَبر هذه الجملة عبارة عن مفتاح يُمكنه أن يفتح للمتأمِّل في القضايا الاحتلالية لباريس المجرمة آخر الأبواب، فيزيل آخر البقع القاتمة، مِن أجل التأسيس لبداية واقعية لما نشهده من تحوُّلات كبرى على الساحة الثقافية، الجزائرية والعالَمية.

مزوار محمد سعيد

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو

www.msmezouar.wordpress.com