وعلى أن بكاء ثابت الناني هذا، وكذا قول فاطمة الآنف، وإنما لم يعدا من النياحة من شيء؛ ولأن هذا القدر من البكاء معفو عنه، بل ومأذون فيه. ولا سيما أن الناس قد كانوا وقافين، وخاصة أننا أمام بيت النبوة! ومنه فليس يعقل أنه صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة هنا، ويفعل نقيضها غيره، و لاسيما من قاطني بيت النبوة وساكنيها. وحين قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية. []. [صحيح البخاري: 1294].
والجاهلية من الجهل قال الواحدي رحمه الله هو اسم لما كان قبل الاسلام في الفترة لكثرة جهلهم والندب تعديه محاسن الميت مع البكاء كقولها وا جبلاه وا سنداه وا كريماه ونحوها والنياحة رفع الصوت بالندب. []. [المجموع، محيى الدين النووي: ج ٥ / ٣٠٧].
وأما وحين كان صدقا، ولم يتعد فيه ذكر محاسن الميت، وعلى شرطه: ومن عدم رفع الصوت، أو استصحاب النياحة، أو شق للجيوب، وما كان نحوه، فهو ذاك المعفو عنه أيضا، وكقول فاطمة آنفا، وعلى ما أنف ذكره أيضا.
وكذا وحين: وجع أبو موسى وجعا شديدا، فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئا، فلما أفاق، قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. []. [صحيح البخاري: 1296].
والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة, أو تنتفه. والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. وكل هذا من الجزع ، فلا يجوز للمرأة ولا للرجل فعل شيء من ذلك. [كتاب مجموع فتاوى ابن باز: 13/414].
أما الندب والنياحة ولطم الخد وشق الجيب وخمش الوجه ونشر الشعر والدعاء بالويل والثبور فكلها محرمة باتفاق الأصحاب وصرح الجمهور بالتحريم ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة وكذا وقع لفظ الكراهة في نص الشافعي في الأم وحملها الأصحاب على كراهة التحريم وقد نقل جماعة الإجماع في ذلك قال إمام الحرمين رحمه الله ورفع الصوت بإفراط في معنى شق الجيب. قال غيره هذا إذا كان مختارا فإن كان مغلوبا لم يؤاخذ به لأنه غير مكلف وأما قول الشافعي رحمه الله في الأم وأكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فمراده الجلوس للتعزية []. [المجموع، محيى الدين النووي: ج ٥ / ٣٠٧].
وأخرج الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: " قالت لي فاطمة: يا أنس كيف سخت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وحدثنا ثابت، عن أنس، أن فاطمة، قالت: حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، «وا أبتاه، إلى جبرائيل أنعاه، وا أبتاه، من ربه ما أدناه، وا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه أجاب ربا دعاه» قال حماد فرأيت ثابتا حين حدث بهذا الحديث بكى حتى رأيت أضلاعه تختلف. []. [سنن ابن ماجه: حديث رقم:1620].
وعن أنس بن مالك: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة عليها السلام: وا كرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، فلما دفن، قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! []. [صحيح البخاري: 4462].