3 

و باسْمِ اللَّهِ تعالى يكون به بدء حصرا لا بغيره أو معه من شريك، فهو الرب سبحانه والإله فردا صمدا، يكون اللجؤ إليه وحده، وذلكم تمام التبرك به تسمية وإذعانا.

ولست بدعا من أمر أتيته، ولست جِدَةً من سعي سعيته، فذلكم هو شأن الكتاب، وذلكم هو طريق فصل الخطاب، القرآن المجيد، كما قد بدأ به منزله، وذلكم هو شأن السبع المثاني، وما به قد حفلت بها ابتداء، وذلكم هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعته، وسبيلا له نهجته.

وذلكم جريا وراء عرف قد تعاهده الناس كابرا عن كابر حتى كان من مشركيهم أن قالوا (باسمك اللهم)، وحتى كان من إلفهم بها أن قالوا لنيبنا صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم يوم الحديبية !

فقد أخرج أبو عبيد في فضائله عن الحرث العكلي قال قال لي الشعبي كيف كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليكم قلت باسمك اللهم فقال ذاك الكتاب الأول كتب النبي صلى الله عليه وسلم باسمك اللهم فجرت بذلك ما شاء الله ان تجرى ثم نزلت بسم الله مجراها ومرساها فكتب بسم الله فجرت بذلك ما شاء الله ان تجرى ثم نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب بسم الله الرحمن فجرت بذلك ما شاء الله أن تجرى ثم نزلت ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾ ﴾[النمل:30]، [الدر المنثور - جلال الدين السيوطي - ج ٥ - الصفحة ١٠٧].

وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت  ﴿ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾[النمل:30]، [المرجع السابق : 107 ].

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة قال لم يكن الناس يكتبون الا باسمك اللهم حتى نزلت ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾[النمل:30]،[المرجع السابق : 107 ].

ومنه فقد تحصل توافق في التسمية ابتداء، وإن كان قد تحصل تباين في لفظها وتركيبها انتهاءً.

بل قد علمت أن لفظها هكذا هو البركة، وأن غيره ليس من يمن به أو بركة، وإلا لكان قد أتى الكتاب بغيرها معها، أو كان سيدنا نبي الله سليمان عليه السلام قد أتى بسواها، أو أن رسول الله قد وافقهم عليها، بدليل أنه قد تغير لفظها إلى ما عهدناه بها بعد يوم الحديبية ،ومن قبله بين المسلمين بينهم البين، وعلمت أن مداراة القوم فيها يوم الحديبية كان مؤقتا، ولسوف يزول بزوال سببه، وقد كان لطفا من الرحمن!

وألفيت سبيل من كتب أن يكتب بادئا بها تيمنا واستحصالا ليمن، ونيلا لبركة! ولم يألُ أحدنا إلا أن يكون مثل من تبرك بقوله﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾. إذ هم القوم يسعد بسعادتهم مثلهم، ولم يشأ أحدنا أن يخرج عن سنة من استنوا تيمنا، وليس له إلا يكون كمن  بها اقتدوا تفاؤلا ب﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

بيد أن ساعدا ألفيته من تبرك لسيدنا نبي الله تعالى سليمان عليه السلام حين قد بدأ كتابه إلى بلقيس وقومها بادئا فيه ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30 ]. وفعله إلهاما من الله باصطفاء ذلكم الذكر دونما سواه، وكأنما يحمل في ثناياه بركة الإجابة، وبركة الكلام، وبركة الدعوة، وبركة استدعاء ما في النفوس من  تقوى، وما قد جبلت عليه من تعلق بالملكوت الأعلى!

وقد رأيت رسول الله ﷺ حين كان يأمر كتبته أن يبدأ كتابه ب﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ، وهو فيض آخر من فيوضاته، ومنه علمت لِمَ وفق الله تعالى نبيه سليمان عليه السلام بما قد وفق إليه نبينا محمدا ﷺ أنها بركة، وأني قد أيقنت أن تركها حسرة، بل وقد بلغ بي اليقين حدا غير محدود بحد أن توافقا بين نبيين كريمين – عليهما السلام - طال زمان ما بينهما من أحداث، أنه سنة النبيين، وإلهام المرسلين أن يقولوا قولا فصلا ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾! فقلت مثلهم ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾!

بل إن الجاهلية في عصرها كانت تعرفها، وإن في غبش، وبل إن كفار قريش كانوا على بقية منها، وإن في ضباب !

و﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ هكذا يراها قارئ كريم بتعداد حروفها ثلاثة وعشرين حرفا، وإن هي في العداد إلا قليلة، وإن هي في الجزاء إلا عظيمة. ذلك لأنه بكل حرف منها حسنة، والحسنة بعشر أمثالها! وأترك حساب الإجمال لقارئ كريم!

وهكذا؛ نعلم أنفسنا، ومن نحب، ونذكر أنفسنا، ومن نؤثر، أن نستحصل البركات  من بدأنا أمرنا، عسرنا ويسرنا، منشطنا ومكرهنا، غنانا وفقرنا، صحتنا وسقمنا، يقظتنا ونومنا، أكلنا وشربنا، نكاحنا وزواجنا، وضوءنا وأحوالنا، ودخولنا مساجدنا وخروجنا، مصعدنا ومهبطنا، سكوننا وحركتنا، لباسنا وانتعالنا، خروجنا من بيوتنا وولوجنا، ركوبنا دوابنا ومشينا، ترحالنا وسفرنا، وإقامتنا وحلولنا، وقعودنا وجلوسنا، وكتابتنا وقراءتنا وتلاوتنا أن نقول أبدا ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ أبدا أبدا !