وقفات حول قوله تعالى(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة68-70].

أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به، أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض، أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟ لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة، لا يُنتفع به في شرب ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.[التفسير الميسر]. 

1

والماء يمكن أن يكون نافعا حال كونه عذبا فراتا. أي جامعا بين كونه سائغا طعمه ولذيذاً ذوقه وليناً ملمسه، وبين كونه دائرا بين طراوة الزلال وعذوبة المذاق. ألم تر أن الله تعالى قال في وصف ماء السماء الذي أنزله سبحانه (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا)[المرسلات:27].

كما يمكن للماء أن يكون على صورة الملح الأجاج شاملا لصفة الملحية ، لتجتمع معاني الضد، فلا يكون سائغا أبدا! كما أنه ينطبع بطابع الأجاج، وهو لفظ يحمل بين جنباته نفرة من مذاقه، كما أنه يحمل بينها أيضا اشمئزازا من مرارته وحرارته وملوحته! وهذه صفات مركبة للماء الملح الأجاج لتحمل الطبائع على نفرة منه فلا يكون سائغا في شراب، ولايبلغ نفعا في ريّ.

والجمع  بين الضدين بيان قرآني كريم. ذلك لأنه بضدها تتميز الأشياء. وهو من بلاغة القرآن العظيم في كل شأن من شؤونه. إذ لما كان قد جاء فرضا على صورة واحدة من صورالماء كونه عذبا فراتا، ولم يأت بعده صنفه الآخر كونه ملحا أجاجا ربما لم يكن في وسع كثيرين استحضارتلكم لوحة تعبيرية يبين فيها الحسن من القبيح، والزين من الشين، والممدوح من المذموم، وهو ما يفقدها رونقها، ولايهبها جمالها، فجاء الجمع بين النقيضين دلالة على كونها لوحة صممت لتعطي معاني الإعجاز لما أبانته من معالم الانبهار أمام الصياغة الربانية للقرآن العظيم.

والإمعان في ذكر الصنفين من الماء إعجاز رباني كريم آخر، دلك عليه ما أنف ذكره. ودلك عليه أيضا ذلكم التركيب المتمازج بين صفات الصنف الواحد ليبدو هو الآخر مستقلا بذاته، مصقولا بصفاته، علي سبيل التمايز أيضا، مما يشي بكونه متراكبا من شقيه أن كان عذبا فراتا، أو كان ملحا أجاجا، لتأتلف أسباب التذوق والقبول والاستساغة في الأول، كما تتنافر صفات الثاني من كونه ملحا أجاجا، فلا ترى نفسا إلا وتعلوها نفرة من شرابه، فما بالك من مذاقه. إن تاقت أن تتذوقه من أساس!

بيد أن الذكر الرباني له شأن آخر في بيان صفات الماء. ذلك أن ماء أنزله الله تعالى من سحابه لقمن أن يكون عذبا فراتا رحمة من الله تعالى وفضلا. كما سبق بيانه من قوله تعالى(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا)[المرسلات:27]. حتى ذاع في الأكوان ألا ينزل مطر من سحاب إلا وكان في الحس أنه ذلكم الماء الذي هيأه ربه منزله سبحانه لشربكم وأرضكم وزرعكم وبهائمكم وصناعاتكم وريكم وسائر ما تستكن إليه أنفسكم من لذائذ الاستخدام، وكل ما تصبو إليه أفئدتكم من جميل الصنائع، وجل ما ترنوا إليه أعينكم من بديع البدائع. فسبحان من قال( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:99].

وتقرير إنزاله الماء دال بطبيعة الحال على تيكم قدرة عظيمة في التدبير. إذ كان مجرد إنزال الماء الذي نشربه من السماء بحاجة إلى قدرة لا يملكها غير منزله الله تعالى، ولايملك أحد من الكائنات إنزاله بهذا التدبير المحكم، وذلكم القدر الهائل مما يسع البشرية كفايتها شرابا وزرعا وصناعة وطهيا وغسلا، وسائر ما يصلح به الماء للاستخدام. فقل لي بالله عليك أي قدر كان لها أن تستخدمه والله تعالى ربها قد كفاها مؤونة ذلكم كله ؟!

والنظرإلى الماء بتيكم نظرة هو الواجب في حق البشرية أن تنظر إليه. دلك على ذلك أن الماء الذي تنزل من السماء عذبا فراتا بهذا القدرالهائل به قوام العالم كله من لدن خلقه تعالى لذلكم الكون كله على امتداده الضارب في القدم، وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وتراها وهي ترفل في نعمة واحدة هي الماء! وليعد أحدنا على أصابعه، ومضيفا إليها أصابع الأغيار إن تاق لذلكم عدا، ليعرف كم هو فضل الماء بتعداد ميزاته، وليدرك كم هو قد تربع بتيكم الصفات وهذه النعوت لينال قسطا من ذلكم الاهتمام الرباني به!

وإن امرؤا ليعجب عجزنا نحن البشرعلى تعدادنا الهائل أن نصنع سحابا لينزل إلينا ماءً يكفينا ولو يوما واحدا! ودلك على ذلك أنهم عجزوا أن يستمطروا سحابا بما يكفي أن يخادعوا به عدوا داهمهم. وانظرإلى محاولة العراق إبان غزو الأمريكان لدولتهم البغدادية المنصورية الأبية، وقد حاولوا استمطارالسحاب للتمويه على العدو الغازي إلا أنهم لم يستطيعوا حيالا لذلك!

وقس على ذلك سائرنعمه المنبثقة عن الماء ليلهج فؤادك أبدا بترتيلك قول الله تعالى(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة:68-70].

وقس على ذلك أيضا جميل نعمه ووفرتها، وسابغ أفضاله وكثرتها، لتجد فؤادك وقد ترنم قول الله تعالى(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل:18].وذلكم حال كون من أحصى مؤمنا، يرجع الفضل لربه الرحمن سبحانه، والأصل كونه كذلك.

وليرتل أيضا قوله تعالى(وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار)[إبراهيم:34]. حال كون أن إمرؤا قد مالت به فطرته عن الناموس الرباني كون أن كل نعمة من لدنه تعالى، فراح به طيشه أن يقول كما قال غيره(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)[القصص:38]. في بلادة حس، وسوء تصور، وكذب في قول، وتعد في خور، وتهور في اعتداء. ليكون بذلكم فعل قد تجاوز حدود الأدب مع الخالق العظيم الذي( يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۞ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )[النمل:25،26].

وقد جاءت آيات كثر في كتاب ربنا الرحمن سبحانه مصدرة باستفهام، ومنه هذه الآية الكريمة من سورة الواقعة. ذلك لأن الله تعالى أراد أن يلفت أنظار عباده إلى نعمه عليهم فجاءت بطريق الاستفهام حثا للقلوب على التفاعل معها، كما أنه تقرير بهذه النعم التترى ليحول التذكر بها أبدا عن مقارفة ذنب، أو ارتكاب خطيئة، إذ كان من مقتضى الإنعام، وكان من لوازم الإيمان بالمنعم ألا يبارز بإثم، أو أن يبارى بمعصية، حياء منه تعالى، إذ كيف يرد على منعم بإثم، وإذ كيف يسوغ فطرة أن يبارز بذنب، والأصل أن رد فضل الإنعام إنما لايكون إلابإفراده تعالى بواجب الشكر له تعالى. وليس يكون شكرإلا بعبادته وحده لاشريك له، وليس يكون شكر إلا باعتراف بفضله أن أنعم، وإلا باستعمال ما أنعم به على وجه يرضيه. وأبان لك هالة ما أقول أن قوما يستخدمون ما به أنعم عليهم في معصيته تعالى، ألم تر كيف أن الله تعالى خلق لنا أعينا لنزداد بصيرة بالنظر بها والاعتباربها أيضا في ملكوته، وما أودعه في كونه من باهرات الآيات على جميل صنعه؟!

وإذا كان الاستفهام يفيد معنى التقرير بأن نعتقد أنها نعمه، وبأنا نزايل كل ريب في ذلكم، إلا أن ذلك الاستفهام أيضا يتضمن توبيخا لمن بارزالله تعالى بإسناد فضله إلى غيره، كما في قوله تعالى(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا)[مريم:88]. وكما في قوله تعالى(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[الجاثية:24].

غير أن الاستفهام وحده كان كافيا لذلكم تقرير، كما أنه وحده كان كافيا لذلكم توبيخ، إلا أن الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه أتي بحرف الفاء بعد همزة الاستفهام إمعانا في ذلكم توبيخ، لعلمه تعالى السابق أن فئاما كثر سوف يحيدون عن جادة الطريق وسواء السبيل! وهو من بلاغة الكتاب الباهرة التي تأخذ بالعقول والألباب إلى حيث يكون التأمل؛ فتأمل!