۞ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا۞ [الإسراء:70].

يقول تعالى ذكره ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم ( وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ ) على ظهور الدوابّ والمراكب ( و) في ( البَحْرِ) في الفلك التي سخرناها لهم ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ).... الآية، قال ( وَفَضَّلْنَاهُمْ ) في اليدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، في قوله ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) قال: قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها، ويتنعَّمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة، فقال: وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان. [تفسير الطبري].

ومقتضى تكريمه للإنسان أن يعبده الإنسان وحده بلاشريك. ذلك أن يعلم أن من مقتضى عبادته له تعالى ألا يُدعَى سواه، وألا يشرع للناس شرعا قد كفاه ربه تعالى مؤنته، وقد أغناه ربه الرحمن سبحانه إعمال عقله ليخطئ أكثر مما يصيب، ليختل بذلكم نظام كونه تعالى، ذلكم أن نظام كونه تعالى في الأساس قائم على العدل المطلق. ذلكم العدل الذي لايمكن القول إن ظلما يمكن أن يشبع فيه، لأن حاكمه هو الله تعالى وحده الذي يعلم ما تخفون وما تعلنون.

بيد أن ما جرى عليه سلفنا الكريم من تعداد لحيثيات ذلكم تكريم منه تعالى لبني آدم فيما نصت عليه الآية الكريمة سالفة الذكر، لقمن عوده أول عود له إلى ذلكم الأصل.

ذلك أن مَنْ هذا شأنُه قد كَرَّم فكان في الحس السليم والعقد البصير أنه يشكر تعالى على ذلكم تكريم، بحيث كانت أولى نتائجه عبادته وحده شكرا له وثناء على ذلكم تكريم. وهو أيضا من مقتضى العقل السليم والقياس الرشيد. إذ إن من أسبغ نعمة واحدة راحت إليه الأفئدة طائرةً لترد له جميلا قد أسداه! فما بالنا بربنا الرحمن سبحانه وقد أغدق علينا بنعم تترى سحَّاء غَدَقا آناء الليل وأطراف النهار بلا إيقاف ولو للحظة واحدة وبلا انقطاع ولو لهنيهة واحدة أيضاً، أفلا كان من حق ذلكم إله أن يعبد وحده ولا أن يُشرَك به أحد معه أو سواه، وقد دلت الفطر السليمة على سلامة ذلكم منطق، وقد تضافرت ألباب أولي البصائر أنه أحق ما يكون واجبا في حق المنعم وحده على الحقيقة بتيكم نعم يرفل الناس فيها على امتداد الزمان طولا وعرضا؟!

لكن الله تعالى لعلمه أن فئاما سوف ينكرون جميلا، ولأنه تعالى سبق في علمه أن عصبة سوف تتنكر لذلكم إنعام قال(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )[إبراهيم:34]. ذلكم لأنه من سننه أن يقوم قوم بالعبادة الحقة له تعالى على وجهها، ليكونوا حجة على من شرد، وليكونوا عبرة لكل سالك كريم سلوك الطريق القويم، والصراط المستقيم.

ذلك أن رد كل إنعام إليه تعالى، وذلك أن إرجاع كل فضل له تعالى لهو مما يناسب ذكره تعالى لهذه الآية الكريمة أن عدَّدَ فيها من حيثيات إكرامه لبني آدم - كل بني آدم - مما معه يحال إلا أنه أكرم بني آدم جميعم، وفضلهم سبحانه على كثير ممن خلق تفضيلا كيما يغمر أحدنا حياء منه تعالى أن يجابهه بعصيان، أو أن يتجرأ أحدنا أن يبارزه بآثام، إلا تحلة ما من شأنه أن يعود الإنسان بعدها إلى حظيرة الإيمان المباركة عبدا تائبا أوَّابا حليما، ذكرا منه تعالى على عبيده ليستن به كل ذي لب، وليهتدي به كل ذي فؤاد.

وقد يذهل مريد عندما تتكشف أمامه فئام معرضون عن سواء الجادة فيعملون العقول فيما لم يكلفوه، ويقحمون أنفسهم المسكينة فيما لم يطيقوه! فتراهم يدورون في فلك بعد عليهم نجمه، وأفل أمامهم ضوؤه، فلايكادون يُخْرِجون إلا (مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)[المجادلة:2]. فيعيشون به معيشة ضنكا، وقد كانوا في غنى عن ذلكم. ذلك لأنه تعالى أكرمهم وكفاهم، وذلك أنه تعالى أغناهم بما هو سبيل الصلاح والتقوى والرشاد والفلاح، وبقي عليهم – وحسب - أن يُعْمِلوا ذلكم منهجا في حياتهم. أوعلى الأقل فليجربوا كما كان أسلافهم من قبل حيث كانت زكواتهم تفيض ألا يجدوا لها مصرفا! وتيكم من بركة إعمال المنهج، ومن إنعامات منزله سبحانه.

لكن قوما قد غرتهم خزائنهم وقد فاضت عليهم بطون أرض الله تعالى مما أودعه فيها من خير، فراحوا يستعملون ذلكم فيما لم يحله تعالى حتى استحالت حالهم إلى أحوال الردى والهلكة لما قد استشرفوا به ربهم من شرور صاعدة ليل نهار. حتى إنه  لكأني بملائكة الرحمن تضج من عملهم، وحتى وكأني بعباد الله الرحمن قد ضجروا من مسالكهم، شفقة عليهم أنفسهم، وشفقة على الأرض التي أخرجت لهم من طيباتها، فإذ بهم يردون جميل الإنعام بمهلكات، وإذ بهم يقابلون سيل الإكرام بموبقات. والأصل أن ذلكم الإنعام يمكن أن يٌخَسفَ به، والأصل أنهم قد يُخسَفُ بهم معه، لأن سننه تعالى لا تتغير، ولايمكن لها أن تتبدل. إذ قد حدث من مثله لأسلافهم التي قد خلت من قبل.

وانظر إلى صنيعه تعالى عندما يتجبرإنسان، وانظر إلى أخذه تعالى عندما يسلك ذلكم إنسان سلوك الطغيان والتكبر والجحود والنكران لأفضال المنعم سبحانه وحقه على عبيده. إذ قال الله تعالى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ۞ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَالْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ۞  قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ۞  فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۞ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ۞ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ۞  وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ۞  تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۞)[القصص:76-83].

وعود إلى آيتنا محل البيان. ذلك أنها قد أوجزت فأبلغت. ذلك أيضا لأنها قد بينت أوجه تكريم الله تعالى للإنسان كل الإنسان في الزمان الضارب، وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها تذكيرا بنعمه وإرادة لعبادته وحده بلاشريك. ذلك أنه أيضا لكل شيء أسبابه، ولكل شئء مبرراته، ولكل حديث حيثياته، وكان من كل ذلك جمع مؤتلف، ليكوِّنَ هالة قديرة من معطيات الإنعام الذي كان به التكريم كيما يكون سببا للتوحيد، وداعية إلى الطاعة، وناهيا عن العصيان والعدوان، ذلكم العدوان الذي ما فتئت البشرية أن تتخلص منه، بل تراها كل يوم تُخْرِجُ من فنون دمار الإنسان للإنسان ما كان لها أولى أن تكرس ذلكم جهدا جهيدا في خدمته إلا تحلة ما قال الله تعالى عنه(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج:40 ].

والشاهد قوله تعالى(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)

والآية في تلخيصها مسائل الإنعام كسبب لدواعي إكرامه تعالى للإنسان إنما قد نحت نحوا بليغا أيما بلاغة.

أستشرفه من حرف التحقيق (قد) المفيد للتأكيد، كما أنه مفيد للتحقيق، كيما يتضافر البيانان لإعطاء مدلول الآية على وجهها المرسوم ناهضة على بيان إكرامه تعالى لعبيده كل عبيده!

كما أني أستشرف تيكم البلاغة من مجيئ الفعل المضارع (كَرَّمْنَا) مشددا ليفيد الإمعان في ذلكم إكرام.

وأستشرفه من مجيئ الفعل المضارع(كَرَّمْنَا) على صيغة الماضي دلالة على تأكيد وقوعه على سائر الأجيال، إفادة تحقيق وبيان منقطع النظير. ذلك لتعلم كل الأجيال أنها مكرمة أيما تكريم ممن خلقها سبحانه، لتفيد هي إكرام بعضها البعض بلا امتهان لكرامة أحد أو إنسانيته، وإنما فاعل ذلكم قد تعدى حدوده وتعرى من كساء الإنسانية، وتجرد من لباس الآدمية، وافترى على مولاه. إذ كيف يكرم الخالق وإذ كيف يهين المخلوق، فـتأمل.

وأستشرفه من اتصال الضمير المتصل للفاعل (نَا) في ذات الفعل (كَرَّمْنَا) دلالة على تعظيمه تعالى نفسَه، كما أنني أستشرف دلالة على وجوب تعظيمنا لله تعالى تبعا.

وأستشرفه من عموم الإكرام لبني آدم كما أسلفت على مرالزمان دليلا على وجوب إكرامه بينه البين .

قلت: وما سحل الناس وإهانتهم بعضم بعضا إلا خروجا عن ذلكم قضاء قضاه الله على البشر أن يكونوا مكرمين بينهم بينا! إلا تحلة مايمكن أن يتسامح فيه من تعزير لا تهان به كرامة ولاتمتهن فيه  آدمية امريء ليُحْفَظُ به نظام الكون من الالتزام، وإلا ما يمكن أن يكون به ضبط ذلكم النظام، حفاظا على الآداب العامة، وشرعة الرحمن سبحانه، بلا امتهان لعزة، أو دوس لكرامة كما أسلفت!

وأستشرف ذلكم بيانا من انسحاب ظل الآية في إكرامها إلى سائر ما دب على الأرض. دل على ذلك أن امرأة دخلت النار في هرة لاهي أطعمتها ولاهي تركتها تأكل من خشاش الأرض! وذلك أن امرؤا سقى كلبا فشكر الله له فغفر له!

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا ، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا قَالَ الزُّهْرِيُّ : ذَلِكَ ، لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ ، حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : أَسْرَفَ عَبْدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ ، إِلَى قَوْلِهِ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ فِي قِصَّةِ الْهِرَّةِ ، وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ : فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا : أَدِّ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ.[صحيح مسلم: 5080].

وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى أيضا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ سُمَيٍّ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا ، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فَقَالَ : فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.[ صحيح مسلم: 4280].        

وكل ذلكم من مقتضيات الرحمة وأسباب الإكرام.

بيد أنه  ليس يكون في الفطر السوية أن يُرْحَمَ حيوان، ولايُرْحَمَ إنسان! فآلة قتل الإنسان دائبة آناء الليل، وأطراف النهار، من لدن قوم أمعنوا في قولهم لهم: رفقا بالحيوان!

وأستشرف البيان أيضا من كون أن التكريم إجمال جاءه بعده بيانه. وذلكم بتفصيل موجباته، وتوضيح مبهماته، من كونهم- بني آدم - قد حملوا برا وبحرا، ومن كون أن الله تعالى قد رزقهم – كلهم – من الطيبات، ومن كون أنه تعالى قد فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا.

فكل ذلكم تفصيل لما أجمل، وبيان لما أبهم، إن جاز القول إن شيئا قد أبهم مع نصاعة البيان, وجميل الكلام

كما أني أستشرف ذلكم أيضا من بيان مخاطبة الناس على قدر ما تسعه عقولهم، وإلا كان فتنة لهم ولغيرهم.

ذلك أنك تلمح أن الآية قد بينت  أنه من سبيل الإكرام حمل بني آدم في البر، وحملهم في البحر، ولم تذكر الآية حملهم في الجو!

ذلك لأن قوما في ذلكم الزمان القديم كانوا قد اعتادوا حملا في البر، كما أنهم كانوا قد اعتادوا حملا في البحر. لكنهم لم يكن في عقدهم أن يوما يمكن أن يكون محفوظا في القدر الرباني ليأتي على الناس يوم يحملون فيه على متن طائرة!

ومنه كان يمكن حينئذ توجيه اتهام - ولو من طرف خفي - إلى ذلكم القرآن العظيم أن قد أتى زعما لم يكن يمكن تفنيده بيسر من القول عند المؤمنين، فضلا عن غيرهم فتأمل.

ومنه أفيد بيان ضرورة مخاطبة القوم على ما تدركه عقولهم، فذلكم من تأويل الكلام حق التأويل، فتأمل أيضا.

وإلا كانت فتنة يعلم الله وحده كم تَطَّايرُ شرورها، ليفقد الناس ثقة قوية متينة في القرآن العظيم، لطالما حافظ القرآن نفسه عليها، ضمانا لكونه معجزا على مر الدهر وطول الزمان، فتأمل.

وأستشرف ذلكم بيانا، أن الله تعالى وحده (هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:58]. وما أحد بمالك لذلكم من شيء على الحقيقة، وما قول الله تعالى ربنا الرحمن (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ)[النساء:10]. إلا من باب ذلكم التكريم الذي نوهت عنه الآية، وبينته أعظم بيان.

ذلك وأن الرزق هنا يمكن صرفه إلى معنى الإيصاء كما قال الطبري رحمه الله تعالى: حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " قال: القسمة الوصية، كان الرجل إذا أوصى قالوا: " فلان يقسم ماله ". فقال،" ارزقوهم منه ". يقول: أوصوا لهم. يقول للذي يوصي: " وقولوا لهم قولا معروفًا " فإن لم توصوا لهم، فقولوا لهم خيرا.[تفسيرالطبري: 8686].

والشاهد قول ابن زيد:" ارزقوهم منه ". يقول: أوصوا لهم.

وأستشرف بيانا آخرمقتضاه أن الله تعالى يأمر عباده ألا يأكلوا إلا طيبا! ونلحظ كلمة (الطَّيِّبَاتِ) وكونها جاءت جمعا لدلالة كثرة الخير ووفرته معا.

ومنه ليعجب امرؤ أن امرؤا آخر قد استعجل الأرزاق الحلال ليقوم مقامها الأرزاق الحرام!

والحقيقة أن البركة كلها إنما قد أودعت الحلال الطيب، والحقيقة أيضا أن البركة قد نزعت كلها من ذلكم الحرام،  وواقع مشهود شاهد ذلك فتأمل!

وأستشرف خلافا بين الناس حول إمكانية تسمية الحرام رزقا، وهو كلام طويل ليس ذلكم محله.

وإنما أردت التأكيد على أن الطيب ليس يكون طيبا إلا حال كونه حلالا، وهذه نقطة جديرة بالبيان فتأمل جيدا!


كما وأني أستشرف بينا بليغا أنبأ عنه مجيء الفعل(فَضَّلْنَاهُمْ) مضعفا!ذلك ليحمل بين جنباته كثرة من التفضيل وثلة من التكريم مايشي ببيان قيمة هذا الإنسان عند ربه الرحمن سبحان فتأمل!

ولعلي أستشرف أيضا سرا بلاغيا أنبأك عنه مجيء  المفعول المطلق(تَفْضِيلًا).ليدل على  إحكام التفضيل وتقريره ،كما أنه دال بدلالته على كونه قد جاء مصدرا ليحكي لنا قصة طريق طويل على جنباته سائر الإكرامات التي يمكن ان يجول بها خيال صحيح.

ولكي نعرف سره  من مجيئه مصدرا فتخيل أخي القارئ الكريم أن النص كان قد جاء هكذا(وفضلناهم  تفضيلا عظيما)كونه مفعولا مطلقا موصوفا، أو أنه كان قد جاء هكذا(وفضلناهم  تفضيلا واحدا) أو ما دل على عدد وإن تناهى! لنعلم أنه في الحالين الأخيرين لم يؤد معنى واسعا ممتدا لذلكم التفضيل دل عليه مجيئه مصدرا! 

ومجيء المفعول المطلق ختما للآية به كيما لاينطق التنوين دلالة معتبرة على إفساح المجال أمام اللفظ ليمتد في الآفاق دالا على أن التفضيل هو الآخر ممتد كامتداده فتأمل!

وتأمل أيضا كيف يمكن استشراف أن أصل الإنسان يعود إلى آدم عليه السلام ولاعليك إذن من قول قائل إن حياة قبله تضمنت أناسا قبل آدم. فذكره تعالى كذلكم ذكر أفيد منه أنه أول أب للبشرية باطمئنان.

كما وأني أستشرف إثباتا للخالق، وأنه هو الله تعالى الخالق لهذا الكون الواسع الفسيح الممتد في الزمان، كما أنه واسع فسيح ممتد في المكان أيضا، وتلك من طلاقة قدرته تعالى، تيكم القدرة التي لا يحدها حد، كما أنه لايمكن أن يرد عليها قيد، والله المستعان.

ويروح بنا النص بعيدا في أعماق دلالة اللفظ (حَمَلْنَاهُمْ) بدلالته على أن الحامل هو الله تعالى فضلا منه تعالى وإنعاما وإكراما،كما أنه يشي إيمانا بالسبب ذلك لأن الله تعالى خلق أسبابا لذلكم حمل أنبأك عنها تيكم النواقل العديدة  إن برا، وإن بحرا، وإن جوا. فسبحان من قال (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)[إبراهيم:32].

وبقي غيض من فيض.ذلك أن الله تعالى قد أكرم الإنسان غاية الإكرام. وبان ذلكم من أول الآية إلى حيث نقف الآن معها.

لكنه تعالى قد نص آخرا في أواخرها تفضيلا آخرليتناسب أول الآية مع آخرها في سياق مهيب من التفضيل والإكرام لهذا الإنسان لعله أن يقوم بحق ربه سبحانه وتعالى عليه كما قد أكرمه ربه أيما إكرام، وكما أنه تعالى قد فضله أيما تفضيل على كثير ممن خلق الله تعالى تفضيلا.

ونقف عن حد الآية، فلانتجاوزها في سرد ما يمكن أن يكون الإنسان مفضلا به على ما سواه، ليبقى الذهن مشغولا بآفاق التفضيل سائرها في أوسع معنى يمكن أن ينسحب عليه.

لكننا ونحن في الطريق نحو تأمل كريم لكتاب الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه لاننسى سياقات الآية الكريمة، لنرى ذلك المشهد المهيب مما أكرم به الله تعالى ذلكم الإنسان ضمن ما أفاض عليه من نعمه، وضمن ما أسبغ عليه من عطائه، كرما منه تعالى وفضلا.

وتلكم من طلاقة القرآن المجيد يتركنا نسبح في آفاق الكون ليرى كلٌّ كيف أمكنه أن يرى مجالا فضَّله الله تعالى ربه فيه عما سواه، فتأمل.

ولقد أطلت وحق لي أن أطيل بيانا لهدي القرآن المجيد والكتاب العظيم كيما ننشر نوره، ونستضيء بضيائه، هاديا للناس في ظلماتهم، كيما يتأتى لهذا القرآن الكريم أن يقود البشرية إلى حيث يكون الأمن، وإلى حيث يكون الهدى والسلام.