وقفات حول قوله تعالى(إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور:28]
المعنى: إنا كنا في الدنيا من قبل يومنا هذا ندعوه: نعبده مخلصين له الدين، لا نُشرك به شيئاً {إنَّهُ هُوَ البَرُّ} يعني: اللطيف بعباده.[الطبري رحمه الله تعالى].
هذه هي الآية الثامنة والعشرون من سورة الطور. ونلمح فيها امتنانا، ونشتم منها إشفاقا، ونستروح منها فرحا وسرورا.وتبرق هي لله تعالى تمجيدا. لأنه سبحانه أهل الثناء والمجد وكلنا له عبد. كما أنه تعالى أهل لكل قول حميد.
والمنة فيها أن أسبغ الله تعالى عليهم نعمته بإدخالهم جنته. حتى استراحوا من عناء تعب قد لحقهم في الدنيا،وحتى وقد أريحوا من نصب عبادة كان جزاؤها ذلكم النعيم المقيم ورضوان من الله أكبر.! وحتى أمنوا بعد خوف ووجل ألا يعمهم الله تعالى بفضله ليهديهم سواء السبيل. ليسلموا فيدخلهم الجنة عرفها لهم. إذ كان يمكن أن يكونوا في عداد من هم قد حقت عليهم كلمة ربك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
أما وإنه تعالى قد سبق في علمه هداهم فذلكم إذن هو الامتنان عينه.وثمرته تصديق به، وإسناده إلى منعمه، والاعتراف به كونه منه تعالى منا منه وفضلا .وهذا هو الشأن مع كل أديب مع ربه سبحانه. يسند نعمه إليه ويوقفها عليه. لأنه في الحقيقة ما من نعمة إلا هي منه سبحانه يغدقنا بها نحن - معاشر البشر- المساكين.
وكان من حق ذلكم يقين بمنه وتصديق بكرمه واعتراف بفضله سبحانه. ذلك لأنه من ثمار ذلكم أيضا زيادة منه وكرمه ولطفه وعطائه لعباده المصدقين ولأوليائه الموقنين بكل جود هو منته، وبكل عطاء هو منحته لمن اصطفى ممن خلق أو برأ من نسمته سبحانه .
والله تعالى ربنا سبحانه؛ لأنه هو العزيز الرحيم، ولأنه تعالى هو البر الرحيم أيضا يريدنا معاشر البشر ألا نكل في تمجيده وشكره والاعتراف بامتنانه. لأن ذلكم سبيل إلى زيادة فضله علينا لتنهض نعمه تترى تعمنا، ولتضحى منته علينا أبدا تحفنا. ذلك لأنه تعالى قال (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ([إبراهيم: 7].
والمنة فيها أيضا له تعالى وحده علينا معاشر من خلق. ولامنة لأحد عليه تعالى أبدا لا في كبير يتعاظمه إبليس ولا في صغير يتحاقره الشيطان.وأقول ذلك لأن نفرا يمكن أن يتلبسه غرور الهدى فيمتن به على مولاه الغني. ونسي المسكين قوله الأعلى ونداءه الأسمى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[غافر: 15]. وقوله تعالى(ياعِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا...يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ)[من حديث قدسي رَوَاهُ مُسْلِمٌ رقم: 2577].
ونسي المسكين أنه لامنة لأحد عليه تعالى أبدا. ذلك لأنه سبحانه له الفضل كله على عبيده كلهم، ولاثمة أحد بخارج عن ذلكم الناموس، ولاأحد أبدا بمستثنى من ذلكم النظام. ذلك لأنه تعالى قال (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات :17].
والشفقة فيها على أولاء نفر قال فيهم ربنا الرحمن سبحانه (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 44].وهم أولاء وكأني ألمح فيهم عبرة الإشفاق على أغيارهم ممن كتب الله تعالى عليهم الخلود في نار جهنم بما قد به نسوا يوم الحساب.!وهذه رحمة أودعها الله تعالى ربنا قلوب عباده الرحماء.!ذلك أن كل عبد مسلم يريد الخيرلنفسه كما وأنه يريده لغيره معه. ليعم الخير كله الكون كله، وليعم الرضا كله الكون كله. وهذه شامة من شامات العباد وتلك سمة من سمات الزهاد.
وشفقتهم أنبأ عنها قولهم في قرآن يتلى إلى يوم الدين (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[الطور:26]وتراهم كلهم مشفقين.! وهي صورة تكشف بجلاء عن طبيعة المجتمع المسلم حين يكون تعامله كله مع مولاه شفيقا على نفسه ألا يدخله الجنة وهي صورة تكشف بجلاء أيضا عن وجل واجب يحيط بكل مسلم إحاطة السوار بالمعصم. فهو سبب لأن تأخذ النفوس بسواعد الجد نحو طريق ربها الرحمن سالكة مسالك الخير والهدى بكل نشاط يعرفه معجم النشطاء وبكل همة إلى الهدى تعرفها معاجم الهدى والهمم العالية والقمم السامقة.محلقة في كل الأرجاء مرفرفة في سائر الأنحاء.مبتغية رضا خالقها وراجية فضل بارئها.
ومنه كان(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[الطور:27].تلكم المكافأة وتيكم الثمرة الغضة الطرية والعطية الهنية الندية. يرجعون الفضل كله لله وحده منا منه سبحانه وكرما. وتلك مرة أخرى من أخلاق الفضلاء ودين الأتقياء. يسندون كل فضل نالهم إلى مولاهم إعمالا لوصية ربهم ولأمر خالقهم سبحانه (ٌ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[آل عمران: 73-74].
وعموم السرور وأفراح الحبور من سعادتهم الغامرة أن قد رضي الله عنهم كما أنهم قد رضوا عنه تعالى ربا وإلها ومالكا وسلطانا ومعبودا وحده بلا شريك.ومن ثم كانت المكافأة العظمى، ومن ثم جاءت المنحة العليا أن (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)[محمد:6].وما أجمله تعبير وهم أولاء تهدهدهم رحمة ربهم في لطفه المجيد وبره الحميد وهم أولاء يدخلون الجنان فرحا برضا ربهم المنان سبحانه!. وهم أولاء أيضا يعرفهم ربهم سبحانه- بنفسه- الجنة.! وهي صورة تحمل معاني البر كلها وهو وضع يشي بكل معنى يمكن أن يحتمله لفظ الرضا من الله تعالى عن أولاء نفر (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الذاريات:16- 19].
وأما تمجيد الله تعالى ربنا الرحمن فذلكم أصل الأصول وفرع الفروع.! ذلكم لأننا معاشر العبيد إنما حول ذلكم وحده ندندن.! فهي أنشودتنا أن نمجده، وهي روضتنا أن نستروح فيها نسمات التوحيد وتبريكات العبودية لله تعالى ربنا الرحمن. حتى صرنا نتغني بأرجوزتنا أن الله تعالى مولانا ولامولى لنا سواه. ونحن بغيره سبحانه لاشيئ .وكلنا معه شيئ وأشياء. لأنا نستقي عزتنا من عزته وقوتنا من قوته ووجودنا من فضله. ونتطلع دوما وأبدا إلى رضاه ربا وإلها وقيوما ومعبودا وحده دون سواه. وسلوانا أن نعيش ظنا حسنا بالله تعالى ربنا الرحمن أن يغمرنا فضله وأن يسعنا جوده وأن تكلأنا رحمته. فإنه تعالى القائل وقوله الحق والصدق المبين (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )[الأعراف:156].