هو موسِم الأعراس على أرض القراصنة، الموسم الأكثر إرهاقا للأستاذ ماركيز، هو لا يميل للاستمتاع بهذا الموسم الذي تكثر فيه الطفيليات والحكايات الاجتماعية التي تسرد بإتقان معارك العائلات وفضائحهم، لكن هذه المرَّة الأمر اختلف قليلا، لأنَّ ماركيز ينتظر حفل زفاف "صديق" قديم له، إنَّه رودريغو، ذلك الضائع بين أمواج العناد وزلازل الفقر.
سار ماركيز راجلاً لوهلة مِن الزَّمن نحو منطقة مليئة بأشجار الزيتون على حواف القرية التي يسكنها، بين شفتيْه السيجارة التي صارت علامته المسجلة بين الذين لا يعرفونه قبل الذين يعرفونه، وفي عقله يدور سؤال واحد: كيف سيتصرف رودريغو؟ كيف سيسير بحفل زفافه نحو برِّ الأمان؟
رودريغو شابٌ ولِد فقيرا على غرار معظم أبناء القراصنة، هنا الفقر بمعناه الأشمل، فهو صبي لأحد الآباء من أشباه بني البشر، لا يعرف طعم المسؤولية أبدا، ترعرع بين عائلة كبيرة تحاول خنق طموحاته كل يوم وبكافة الوسائل، هو أخ أكبر لأخت ضرب الجهل أطنابه بين روحها لحد السيطرة الكاملة على تصرفاتها وما لها من أفكار أيضا، بينما الأم لعبت دور الوسيط والرفيق الذي لا سبيل للتخلص منه على درب الآلام هذا، لتنتج لنا كتلة من الغضب، العبودية، العنصرية، العناد والفقر بكافة المعاني، تلك الكتلة هي رودريغو ببساطة.
وقف ماركيز تحت احدى أشجار الزيتون يشاهد عشا لأحد الطيور، وكم تمنى لو كان طائرا، يبني عشه بإتقان، وهو ليس مضطرا لإقامة حفل زفاف، بل يكتفي بتأدية رقصة أمام أنثاه، وبموجب الرقص يصبح زوجا، كم الحياة أبسط في عالَم الطيور، عالَم الحرية والانطلاق نحو الآفاق.
في تجمُّعٍ كتجمُّع القراصنة، أين يتكلَّم الدينار/الدولار بكافة اللغات، فإنَّ إقامة عرس – حفل زفاف – ليس استثناء عن هذه القاعدة الجوهرية، فالثريّ يشتري سكوت كل مَن هُم حوله، ويفرض عاداته وتقاليده الشخصية التي هي في الأصل آراءه على الجميع، فيمر حفل زفافه بلطف منقطع النظير؛ بينما على الضفة الأخرى، إن كنتَ كالأستاذ ماركيز أو الأخ الفاضل رودريغو، أحد فقراء القوم، فإنَّ حفل زفافك سيشهد كافة العراقيل لأنَّ كلَّ قرصان سيدلو بدلوه في المسألة، ولن تجدِ كلمات العريس حتى ولو كان سليط اللسان في تنظيم مجريات الحفل، لأنَّ اللغة الكابحة هنا ليست الكلمات بل الدنانير/الدولارات، والباقي مجرَّد تفاصيل لا مجال لسردها أبدا.
على أرض القراصنة الفتاة تباع وتشترى بصيغ كثيرة، أبرزها كلمة الله ورسول الله، عبارة: أنا أخطب ابنتك على سنة الله ورسوله على أرض القراصنة معناها الخفيّ هو: أنا أرغب بشراء ابنتك بمظلة الدين، والدليل أنَّ عائلة العروس تبدأ بطرح أسئلة حول العريس تثبت هذه النظرة الدونية المقيتة باتجاه بناتهم.
أوَّل ما يُسأل عنه العريس – الافتراضي هو مصدر دخله، حتى يتم تحديد ثروته تقريبا، بعدها يسألونه عن ممتلكاته من عقارات، سيارات، متاجر... وغيرها، وعندما ينجح في هذه الخطوة الأولية، تتوجه الأسئلة نحو سعر الشاة – عفوا الفتاة – والذي يطلقون عليه كذبا بالمهر، فيتم حديد السعر من جانب واحد، ألا وهو عائلة العروس، وفي غالب الأوقات تتمدد الأمور نحو تحديد وزن الذهب الذي يجب على العريس اقتناؤه للعروس كشرط أساسي لزواجه.
إن ما نجح العريس في كافة هذه الاختبارات، ينتقل إلى مرحلة أخرى، ألا وهي أقدس مرحلة على الإطلاق، هي مرحلة إقامة حفل الزفاف، وعلى الرغم من أنَّه لا توجد شريعة أو قانون يفرض إقامة حفل للزفاف، إلاَّ أنَّ القراصنة يعتبرونه هو الزفاف في حد ذاته، وهي وليمة ترهق كاهل العريس بالأساس، فهي شبيهة بإقامة مهرجان، يدعى إليها الجميع، بل تدعى إليها المدينة بأكملها، فيأكلون ويشربون ويسهرون، ثمَّ يشعلون نيران الفتن في بيت الزوجية الجديد، قبل أن يتركوا العريس يعدُّ أرقام الفواتير التي عليه تسديدها لبقية أيام حياته.
هذا باختصار ما وقع فيه رودريغو، وبسبب كل هذا وجد الأستاذ ماركيز نفسه مشفقا على زميله في البؤس والشقاء، لأنَّه يعلم علم اليقينيات بأنَّه سيعبر على الجسر ذاته، وسيمشي على الدرب عينه، درب الآلام.