أنـا ماركيز، الفيلسوف الذي يعيش على أرض القراصنة، أرض "الجنَّة ما وراء البحر"، أعشق التدخين وأحبُّ شرب الويسكي بشكل مستمر، أعمل مدرِّسًا للغة العربية، لغة الجنة، القرآن الكريم وفطاحل الشعراء، أكتب بنهم وأقرأ بطريقة أقرب إلى التهام الكتب بدل قراءتها، أحب الجميع – أو هكذا أعتقد – وأحاول التأقلم مع الجميع، رغم أنَّني لم أستطع بلوغ هذا الهدف بعد.

ذات يوم صيفي حار، أحد أيام الصمايم الملتهبة، استيقظتُ باكرا على غير العادة عندما أكون في عطلة، أحب أن أكون مستيقظا عند وقت الفجر، لا لشيء سوى لأجل الاستمتاع بلفحة النسيم البارد الذي يهبُّ صباحا فقط، فأحاول الاستمتاع به عندما يصفع وجهي، النسيم البارد بين أمواج اللهب يصبح نعمة لا يعرف قيمتها سوى عابري السبيل مِن الحكماء في هذه الحياة، غسلتُ وجهي، بعدها شرعتُ في تدخين تلك السيجارة الملعونة التي يسمونها بالسيجارة الصباحية، أنا لا أجد لها طعما مميزا على عكس الجميع مِن قبيلة المدخنين العصماء، قبل أن أطرح على نفسي ما يلي: ما معنى الاحتفال في عقيدة القراصنة؟ هل هُم يبتسمون حقا؟ وهل تلك الابتسامات التي ترسم لفترات قصيرة للغاية على وجوههم، هي ترجمة للفرح الذي يسكنهم؟

ما هو شائعٌ هو أنَّ الابتسامة هي تعبير عن الفرح الذي يسكن الفتى، لكن ما ألاحظه مِن حولي هو أنَّ الابتسامات صارت وسائل لمداراة الجروح أو مجاملة الحاضرين لا غير، الأمثلة كثيرة ومنتشرة بين أوساط القراصنة بصورة معروفة للحاضرين والغائبين، وهذا ما جعل شرعية التساؤل حول فحوى الابتسامة ومعانيها جائزا، بل وضروريا، خاصة عندما يعيش ماركيز على أرضٍ تتفنن في الغرق بين مياه الأحزان كما هي "الجنَّة ما وراء البحر".

أخذتُ نَفَسًا عميقا، ارتديتُ ملابسي بسرعة – أسرع من المعتاد – ثمَّ جلستُ أقرأ رواية – الخلاّن لكاتبها أمين الزاوي – وعندما وصلتُ إلى فِكرة "دار التسامح"، عاد عقلي الذي يأبى المرور على الأفكار مرور الكرام، إلى فِكرة الأرض وعلاقة الإنسان بها، الأرض هي الوحيدة التي تصنع الابتسامة الحقيقية، لأنَّ الإنسان كلَّما كان راضيا عن بقائه في أرضه، كانت ابتساماته تعبيرا صادقا عن مشاعره، ألم يضحك أفولاي وأوغسطين ببراءة منقطعة النظير خلال تواجدهما في دار التسامح!

لقد حاول ذلك المتشرد "جاك دريدا" خطف مفهوم الأرض مِن القراصنة، وبعقلية القرصان أراد الاستيلاء عليه واحتكاره لوحده، طبعا هي عصبية "شعب الله المختار"، لكنَّ الوقوف على معاني وأبعاد هذا المفهوم – المقدَّس – لدى القراصنة مثلما هو مقدَّسٌ عند الفراعنة، هو حقٌّ لا يمكن لأحد مصادرته أو سجنه في سجنه الخاص.

استرجعتُ علاقتي بالأرض، بعدما تذكَّرتُ آلاف الغرقى الهاربين مِن "الجنَّة ما وراء البحر" باتجاه القارة الأوربية، وتساءلتُ عن السبب الذي يجعل قرصانا في مقتبل العمر يفضِّل أن يغامر بحياته، أو أن يهدي بقية أيَّامه لظلام البحر الأبيض، على بقائه على "أرض" القراصنة، هل فقد القراصنة صلاتهم بالأرض؟ هل أحجمت هذه الأرض عن تحفيزهم على إبداء الابتسامة لغيرهم؟

أنا ماركيز، الفيلسوف الذي يعيش على أرض القراصنة!

لقد ولدتُ ككل قرصان هنا، حيث يولد الإنسان على أرضٍ لا يختارها، مثلما لا يختار والديْه، دينه، لغته – لسانه، لونه وبعض الأمور الأخرى منها اسمه كذلك، لكن هذا ليس مبررا أبدا للوقوف على حافة الجحيم مناديا بأعلى صوته معلنا تمرّده، لأنَّ التراب الذي يوجد على هذه الضفة من البحر الأبيض هو ذاته التراب الذي يوجد على الضفة المقابلة أيضا، الابتسامة الموجودة على هذه البقعة مِن العالَم هي ذاتها الابتسامة الموجودة في كلِّ مكان، والإنسان يعيش بداخله أكثر مما يعيش خارج عقله وعواطفه.

أنا ماركيز، الفيلسوف الذي يعيش على أرض القراصنة!