في حالات المَرَض، يشعر ماركيز بعجز قاتل، بل هو يعتبر حالات العجز هذه مِن اللحظات السيئة في حياته كلها، العجز بالنسبة له مرادف للموت، هو موت مؤقت يأخذ مِن ماركيز أحلى وأجمل لحظاته، ليلقي به صريع الفراش، فيتعذَّب معنويا بشكل رهيب، لهذه الأسباب فإنَّ العجز هو عدوُّ ماركيز الأوَّل في هذه الحياة.
بصعوبة كبيرة ينزلق جسم ماركيز فوق سريره صعودا، يشعل سيجارة، يأخذ نَفَسًا منها، قبل أن يسرح تفكيره في حديقة البقاء الإنساني، أين تعلَّم ماركيز بأنَّ اللسان المقرَّب للإنسانية هو كلُّ ما يتعلَّقُ بمبادئ هذه الصيغة الفطرية في الفرد، ألا وهو البقاء، إذ يُعتبَر هذا الأخير أولوية الأولويات لدى كافة الأحياء من الكائنات.
هذه الغريزة موجودة عند الحيوان قبل أن توجد عند أبناء البشر، فالضرورة القصوى للوجود أن يكون الإنسان متشبثا ببقائه حيا، وهذا ما ينتج المقاومة عند الإحساس بالخطر (Achtung)، وبالهروب أو الاندفاع عندما يشعر الفرد بالتهديد مهما كان نوعه، حدته ودرجته، لتصبح مسألة الاستمرارية، مسألة متعلقة بالتوقيت والقابلية للمواجهة، سواء اضطرارا أو إقداما.
وما دامت الأخطار على اختلافها هي نقيض البقاء عند البشر، فإنَّنا نجد بأنَّ هؤلاء البشر أنفسهم ينفرون مِن المساحات والمناطق التي تجعل الفرد يشك فيها بأنَّ الأخطار تتربع على عرشها، لهذا نشاهد الآلاف من اللاجئين والنازحين يفرون من مناطق الحروب، الملايين من الناس التزموا بالبقاء في بيوتهم عندما هبَّت الجائحة على العالَم كما نجد الكثير من الأفراد يصرخون طالبين النجدة، في حالات الكوارث الطبيعية على اختلافها، إنَّه الخطر الذي يجعل الإنسان يركض في كافة الاتجاهات طلبا للأمن والأمان.
الفشل في قواميس الأرض كلها هو عبارة عن خطر، وهذا ما يجعل القراصنة يهابون التغيير على اختلافه، هُم يشعرون بالخطر الذي يصدر عنه، خَطَرٌ يهدد أمانهم المهتز، بينما شريعة الحياة هي في اقتحام تلك الأخطار، فلو أنَّ نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بقي في مكة ولم يهاجر إلى يثرب، فإنَّ مصيره هو الموت لا محالة، لو أنَّ نابليونِي بونابارتِي لم يغامر بجيشه نحو الشرق لما وصل إلى المجد الذي بلغه، لو أنَّ ابن رشد – رحمه الله لم يقدم على معاينة ابنة السلطان لما اكتشف السماعة الطبية، لو أنَّ غاليلي غاليليو لم يواجه الكنيسة لما سجل في سجلات التاريخ كأهم الفلاسفة والعباقرة، عندما تضيق المسافة بين الإنسان والخطر، فإنَّها كفيلة بترجمة تلك الشجاعة إلى حبر أبدي لصاحبها، ليصون اسمه بشكل أزلي.
لا يشعر ماركيز بالارتياح لمساحة الأمان كسبيل للعيش والموت، لا يجد هذا "المجنون" لذة في البقاء بشكل آلي، حددته عقلية القراصنة منذ أمدٍ بعيدٍ، بل هو يرغب باقتحام الخطر مهما بلغ حجمه وشدته، لأجل تشكيل منطقه الخاص بالاعتماد على عقليته المجرَّدَة والمنزَّهَة عن كلِّ تبعية أو خضوع.
رغم كلِّ الألم الذي يشعر به ماركيز في عزِّ حالات مرضه، إلاَّ أنَّه يبذل كلَّ ما عليه مِن أجل القيام من مكانه واستغلال ما تبقى له من طاقة للوقوف، هو لم يعتد أبدا على العجز والوهن، لهذا تجدهُ يبذل كلَّ ما لديْه لتطوير نفسه، حتى يحمل كلَّ ما يستطيع باتجاه أقصى ما يمكن.
فترات المَرَضِ هي مساحات تفكير ومراجعة للذات بالنسبة لماركيز، هي مدد زمنية تشبه كثيرا حالات المكاشفة لدى الصوفية، أو جلسات الاعتراف عند المسيحيين، يحاول ماركيز من خلالها إعادة ترتيب حياته من جديد، يحدد مكامن الأخطار التي هو بصدد الإقبال عليها، لا ليتجنَّبها، ولكن حتى يقوم بغزوها مباشرة، وبكل ما يحمل من عنفوان وكبرياء.