يمرُّ ماركيز بمنعرجات كثيرة ما دام قائما على حياته ضمن النسق الذي أسسه القراصنة، أو وفق المنهج الذي سُطِّرَ لهم منذ أمد بعيد، وبدل أن يحمل النذالة بين مفردات قاموسه، فقد اكتشف بأنَّه على العكس تماما، لقد استوعب بأنَّه قد ضمَّن هذا الكتاب المقدَّس لديه، قداسة أيامه التي يعيشها بوعي شامل، قد ضمَّ له الشهامة في أبهى معانيها، تلك التي راح يعبِّرُ عنها بكلماتٍ تحمل معاني الوفاء والإباء.

ليس ماركيز مَن يهتمُّ بسخافات التفاهات التي تنموا من حوله بشكل متزايد، وإنَّما هناك لغة يتبناها منذ فترة، وهو الذي يرى فيها إطارا قادِرًا على تحويل حياته إلى المجرى الذي يناسب تطلعاته وجموح أفكاره المتمردة، هذه اللغة لن تكون سوى لغة الحرية، بعيدا عن عبودية القراصنة أو العنصرية التي يسبحون فيها بشكل قاتم.

ما هو شائع عن القراصنة هو أنَّهم عبيدٌ مِن أسوء أنواع العبودية، هي عبودية طوعية وإرادية، بل إنَّ بعضهم راح يتفنَّنُ في عشقهم لهذه العبودية ومشتقاتها من مذلة، إهانة وخنوع بطريقة مهولة لكلِّ فرد واعٍ بما يدور من حوله، لكن أن تصحب هذه العبودية – الأكثر سوء في التاريخ – بالعنصرية، فإنَّ الأمر قد تعدَّى كافة الحدود بل قد تخطى كلَّ المعايير والموازين.

مِن النادر عبر تاريخ البشرية أن تجد عبدا عنصريا، لأنَّ أدنى درجات التفكير المنطقي البسيط يقول بأنَّ المظلوم – وهو ما يظهر به العبد – لا يستطيع أن يكون ظالما في الوقت نفسه؛ يعني أنَّ العبد (المظلوم) لا يُمكن أن يكون عنصريا (ظالما)، ولكنَّ القرصان على أرض "الجنَّة ما وراء البحر" قد جمع بين هاتيْن الصفتيْن للأسف، فتجده عبدا للأوربي وعنصريا باتجاه الأفريقي ذا البشرة السوداء، وهي تظهر المقاربة بشكل جليٍّ تماما.

الأستاذ ماركيز ليس عنصريا ولا هو مِن العبيد، هو أعلى مقاما مِن الاثنيْن، فهو يرفض أن تُداس كرامته وعائلته، فيرفض أن يكون مظلوما أو ضحية، كما هو لا يستطيع أن يتخيَّل – لمجرَّد الخيال – أن يكون عنصريا أمام بني البشر على أساس الجنس، اللون أو الدين؛ لهذا لم يستطع ماركيز أن يكون قرصانا صِرفا.

هذه المسلّمات صارت بديهيات عند ماركيز، صارت ثوابت لا يمكن زحزحتها أو إلغاءها، لقد اختار ماركيز طريقا بعيدة عن الظلم وكلِّ ما يتَّصل به، لهذا مِن الصعب أن يكون سببا في اتلاف مكانته الإنسانية، وهذا ما دفعه إلى الوقوف مقيَّدا بتلك الوعود التي كبَّلت ضميره بشكل مطلق وغير قابل للنقاش؛ أن تجد "قرصانا" مثل ماركيز، يعيش على أراضي القراصنة رغم مقاومته العنيفة لهم، يحاول أن يفي بالوعود التي أطلقها بكلِّ رجولة وشهامة في القرن الواحد والعشرين للميلاد، فإنَّك قد وقعت في دائرة معنوية ثمينة، تستقي مِن الجماليات المختلفة النصيب الوفير.

الأمر يبدو للمدركين للوقائع التي يعجُّ بها واقع القراصنة أمرا يقترب مِن المستحيل، لكنَّ الأستاذ ماركيز ينفِّذُ ما هو على عاتقه بطريقة مبهمة وشريفة للغاية، وهو مقتنع تمام الاقتناع بأنَّ ما هو بصدد إنجازه قطعة فنية من تاريخ الفن الإنساني الراقي، لهذا هو لا يتراجع أبدا عند بلوغه مراتب الوفاء بهذا النمط المبهر عاطفيا وعقليا.

لقد انتصر ماركيز ما دام يحاول الالتزام بالإنصاف في حياته، لقد ربح تلك الطمأنينة التي ترافقه خلال أيامه بشكل رائع، لقد أكَّد مرَّة أخرى على أنَّ الإنسانية لا لون لها ولا جنس ولا هي تعترف بالتمييز بين البشر أو الأفضلية بينهم، هذه الكذبة التي يرضعها الأطفال على أرض القراصنة مع حليب أمهاتهم.

العبودية مثل العنصرية هي ضدٌّ صريح للإنسانية، وكلُّ إنسانٍ يعتنق إحدى هاتيْن الصفتيْن – العبودية أو العنصرية – فهو يلغي بشكل حقير صفة الإنسانية مِن حياته، وهذا ما فهمه ماركيز وعمل على تجنُّبه بكلِّ ما له مِن قوى.