تفاعلات روحية كثيرة تجذب ماركيز نحو قاعِ الحياة، تجعله ينهمك في تفاصيل يومياته الدقيقة، تعيد رصف الكثير مِن التَّقلبات النفسية، لربما تمكَّن ولو للحظات مِن الاقتراب ولو ببطء مِن تلك الأهداف التي تمَّ تسطيرها عن عمد بين قضبان الأرواح الكثيرة التي تشهد الكثير مِن هواجس العيش هي أيضا.
هو جِسمُ ماركيز الذي يتهالك تحت وطأة الضغوطات المختلفة، وهي رباطة جأشه التي تأبى أن تنكسر في مواجهة أمواج العفن الذي راكمه القراصنة مِن حوله عبر عصور مختلفة، الأمر يزداد تعقيدا في وسطٍ لم يعد يبالي بانتحار القيم ولا بسجن الأخلاق بلا تهم ولا محاكمات.
للأمانة؛ ماركيز لم يستسلم بعد، لا يزال يحاول النجاة مِن مصيره المحتوم على أراضي القراصنة المذمومة، لا يزال يعلِّقُ أمانيه التي يحاول تحويلها إلى أهداف مؤجَّلَة التحقيق كلما سمحت له الفرصة لذلك، وهذا ما يدفعه إلى التفكير بشكل أعمق وبجدية لا نظير لها، فكلما اقتربت ساعة التنفيذ ازداد الضغط على العقل الماركيزي لعله يسرع الخطى باتجاه المنافذ، تلك التي تبدوا لحد الآن، قريبة مِن المستحيل.
يكره ماركيز لحظات عجزه بشكل خرافي، لا لشيء سوى لأنَّها تذكِّره بضعفه، هو لا يحتمل فِكرة أن يبقى معطوب الأمل، مكتوف الطموح أو عاجزا عن رفع الأماني إلى مصاف الواقع، كلُّ هذا يبرر كره ماركيز الذي لا مثيل له للعجز كفكرة وأداة؛ كواقع وافتراء.
تُبنى الحياة على أعمدة خيالية في عُرف ماركيز، ما نرثه عن الأسلاف هي تلك الترسبات التي بدت لهم صائبة يومها، لأنَّها تكررت بشكل مناسب لعدَّة مرات وِفق مبدأ الحتمية الثقافية، وهذا ما أكسبها قداسة مهولة بمرور الوقت، إنَّها شرعية التعارف بالتكرار، ومشروعية اليقين بالتلقين، وهي بذلك تفرض على ماركيز استعمال راية التمرد عليها لأجل بناء ما يراه مناسبا له، عبر ما يحمله مِن أدوات تراكمت عبر رحلة تكوينه المعرفية الشاقة من جهة، أو عبر تجاربه اليومية التي كانت نتيجة لدموع وأفراح على طول ما مضى مِن عمره مِن جهة أخرى.
أن يفهم الإنسان ما يدور حوله على "الجنة ما وراء البحر" أسهل بكثير مِن بقائه جاهلا بمجريات الوقائع، لأنَّ الأمر كما هو ظاهر لا يخلو مِن تلك الإبر التي تخز العقول وتخدر الضمائر لصالح تجمعات وكتل بشرية تُساق بالكرباج الذي لا يرحم، تلك الطريقة التي تعتبر العقل الذي يشتغل ولو بشكل غير دقيق العدو الأوَّل للبقاء القرصاني اللئيم.
يكاد ماركيز ينفجر بسبب كثرة التفاهة التي يسبح فيها معظم معارفه مِن قومه، تلك الديانة الجديدة التي صار لها أتباعا وأنصارا منتشرين عبر مختلف الأقطار والأمصار، لقد أعلن الأستاذ ماركيز منذ زمن ليس بقريب عن نياته محاربة هكذا تفاهات مهما كلفه الأمر من تكاليف غالية، لكن بعد مدَّة زمنية ليست بالطويلة مِن إعلانه ذاك، اكتشف ماركيز بأنَّه يحاول محاربة آلة اعتادت على سحق أشباهه منذ نموها وتجبرها، فلجأ إلى الانكباب على طريقة أخرى لتخليص نفسه مِن أخطبوط التفاهة هذا، ليعمل في البدء على تحصين عقله مِن كافة هجمات القراصنة على اختلافها وتفاوت حدتها، قبل أن يعمد إلى تأسيس ملجأ روحي منيع، يدخله كلَّما دق ناقوس روحه فجأة، وها هو اليوم يستعمل كلَّ طاقاته الفكرية والعقلية، قصد اعمالها في حقل التفكير، لعله يجد منفذا نحو ثقافة أخرى تحتضنه، تملك من الخصوصيات ما يؤهلها لاستضافته بين ثناياها الروحية قبل المادية.
لقد تعب ماركيز مِن وقاحة الثقافة الأوربية، غطرسة الثقافات الأميركية، لؤم الثقافات الشرقية ومتاهة الثقافات الأفريقية، هو يحاول جاهدا الوصول إلى تلك السكينة التي توفرها احدى الثقافات التي تصالح أبناؤها مع الآخر قبل أنفسهم على أرض الواقع قبل أن يهلكونا بالتنظير، والنفاق في التطبيق.