يقف الأستاذ ماركيز عند مفترق الطرق، محتارا بين أيّ مِن الطريقيْن يرغب باتباعها، هو يدرك مسبقا أنَّه بمجرَّد خطوِه للخطوة الأولى، يُسَد الباب خلفه، فيصبح بلا سبيل للرجوع، وهذا ما يقلقه أكثر، ففي الكثير مِن الأوقات ترغمنا الحياة على تكبُّد بعض الخسائر المعنوية بقية أيامنا، خاصة إن ما تعلَّق الأمر باتخاذ بعض القرارات المصيرية، تلك التي تكون بمثابة حجارة الأساسات بالنسبة لكلِّ ما سيأتي بعدها.
لقد مرَّ الأستاذ ماركيز بالكثير مِن هذه التجارب، لهذا هو يعرف ما معنى أن يتخذ المرء قرارا حاسما، فتقع عليه تبعاته وحيدا، كما سبق له وأن تذوق مِن الكأس نفسها، تلك التي هو مستعد لتذوقها مجددا هذه المرة، هو يفهم ما معنى أن تكون الخسارة الكبرى في المرحلة المقبلة من حياته، العائلة؛ نعم! ستكلفه الخطوة التالية خسارة تقدَّر بالعائلة/الأسرة الصغيرة، دفعة واحدة وإلى الأبد.
عندما تحصر قطا في الزاوية بدون أن تترك له أيَّ منفذ، فأنت تصنع منه وحشا ضاريا، سرعان ما يهاجمك بكل ما يملك مِن قوى، وهذه هي الحال التي وجد ماركيز نفسه فيها، بعد سنوات من محاولاته الكثيرة للتفاوض مع القراصنة الذين يتكاثرون حوله كما تتكاثر نباتات الفطر، لكنَّ النقطة الأصعب في الموضوع كلِّه، هي تلك المتعلقة بالخسارة، بالتكلفة، لأنَّ المرء يفقد جزء كبيرا من وعيه، عندما يجد نفسه يفكِّر في اختيار احدى النتيجتيْن، إمَّا حياته عبر تمرده، أو اذعانه عبر استسلامه.
ما نعرفه جيِّدًا عن ماركيز أنَّه لحد الساعة، لم يستسلم، لم يتراجع ولم يذعن أبدا لأمور كثيرة، رغم التكاليف التي دفعها روحيا ومعنويا، فقد بقي هذا الإنسان مقاوما بكل ما يملك مِن قدرة على فرض الذات والابتعاد عن المغالاة، لقد فهم الأستاذ ماركيز بأنَّ الأهداف لا تتحقق سوى بالمشقة الرهيبة، لهذا هو مِن طينة مَن يكسرون الحواجز على اختلافها، مِن أجل الوصول إلى مبتغاهم، ولطالما دفع هذا الرجل أثمانا باهظة أثناء تصحيحه لمساره في الحياة.
سرى تشنج غريب في قدم الأستاذ ماركيز فمدَّها بشكل طولي، وضع كتاب "طوق الحمامة" لكاتبه علي بن حزم الأندلسي بجانبه، تأمَّل كلَّ مقتنياته وأثاث غرفته من حوله، أخذ شهقة مفعمة بالأمل، قبل أن يواصل تفكيره في الحالة التي يواجه تداعياتها، يا لها مِن حالة صعبة!
لا يمكن أن يترك ماركيز الآخرين يرسمون له الجزء الأهم مِن حياته بهذا الشَّكل، حتى ولو كان هؤلاء أحب الناس إليه، لكن وبالمقابل، هو يدرك بأنَّ امتناعه عن الخوض في هكذا مشاريع "اجتماعية" في وسط القراصنة، ستكون فواتيره لا تطاق، عليه إذن أن يساير الوضع حتى يجد حلا مرضيا، ولكن عامل الزمن يفرض نفسه بقوة، هو يتجه إلى مرحلة الكهولة بشكل سريع، مغادرا مرحلة الشباب بطريقة أسرع، وبهذا الشكل يكون تحت ضغط أكثر من رهيب.
الحل الوحيد الذي بقي له، يجعله يخسر والديْه والإخوة دفعة واحدة، سيكون الأمر صعبا عليه بداية، لكن بمرور الزمن سيتعافى بشكل سطحي، لأنَّ الندوب الروحية التي ستنتج عن الخطوة المقبلة في حياته، ستجعله يعاني منها بقية أيامه؛ وهنا مكمن الخطر، لهذا وباختصار: على ماركيز أن يكون كثير الشجاعة وأكثر دقة في حساباته، فالأمر متوقف على تلك التفاصيل التي لا يميِّزها الآن بوضوح للأسف!
التمرُّد صفة متصلة بدماء النبلاء على أرض القراصنة مثل ماركيز، لهذا لا تنتظر مِن هؤلاء الكبار أن ينتظروا الوفاة وهُم مكتوفي الأيدي، حتى أنَّ الواقع الذي يتعقد مِن حولهم يوما بعد يوم، هو ما يغذي فيهم ذلك التمرد دون حتى أن يدري.