ترتفِعُ أصوات الحياة مغردة كلَّ يوم بلحنٍ جديد ومتجدد، تغازل أجمل اللحظات، تشرِّحُ أرقى التطورات وتتداعى أمام أنبل القيم والمبادئ، لتزيِّن الروح بألوانٍ سرمدية راقية، فتعطي للوجود الإنساني حضورا متميزا، يستقي تواجده مِن ضرورة استمرارية العيش، ويستلهم مشروعيته مِن شريعة البقاء لديْه.
بين الحين والآخر، يسير ماركيز على طريق الذكرى، يتأسف على لحظات يعتبرها ضعفا، ويفخر بفترات يعتبرها انتصارات – ولو كانت بسيطة – مما يجعله متأرجحا بين ثنائية تتكرَّرُ بداخله كلَّ وقت وتحت أيٍّ مِن الظروف كانت، إنَّها مضامين الغريزة ومثالب العقول، فإن ما تصارعت كانت نتائجها اليقظة، وإن ما تصارحت كانت نهاياتها الارتقاء نحو المزيد مِن المحببات.
يتذكَّر الأستاذ ماركيز الكثير مِن هذه المحطات على اختلاف سواقيها، تلك التي صنعت منه المغامر، المتردد، المقدام والمجنون، لحظات صهرته كما يُصهر الذهب، وأخرى كانت قاسية عليه لدرجة أنَّ ذاكرته تستدعيها كما يستدعي عقله مذاق الأدوية المرَّة، لهذا كان له أن يغطَّي على جوانب عديدة مِن هذه اللحظات، لتجعل مِن ماركيز، الإنسانَ الذي هو عليه اليوم.
ماركيز في الحياة أشبه بإنسان يغرق، يحاول التشبث بما يمكن لجسمه الوصول إليه، هو يمسك بعمله في التعليم، يحاول زيارة أماكن العبادة، يقرأ ويكتب، يسافر وَيلتقط صورا فَيتشاركها مع العالَم على مواقع النت، يكوِّن صداقات وعداوات، يقدِّم الهدايا وينتقد محيطه بالكلمات، وكلُّ هذا بحثا عن معاني لليومي، معاني سُرقت منه منذ أمدٍ بعيد.
صعبٌ أن تفهم ما معنى أن تعيش قرصانا على أرض القراصنة، ضدَّ الفطرة، الغريزة، الطبيعة والتيار الموجود منذ الأزل، والأصعب أن تدرك المعاناة التي تتغلغل بداخلك كلَّما اقترب ذهنك من ملامسة النجاة، يفهم الأستاذ ماركيز شِعار القراصنة على أرض "الجنَّة ما وراء البحر" بشكل عميق، تلك المقولة غير المصرَّح بها، غير المُعلنَة، والقائلة: "المعاناة هي حياتنا اليومية" (Leiden ist unser tägliches Leben)؛ لكنَّه وبالمقابل؛ هو يعمل بكلِّ طاقاته لتجاوز ما يرغب الجميع من حوله إيقاعَه فيه بكلِّ ما يملك من أفكارٍ ومواردٍ.
عبر منظومة متماسكة من الفساد وسوء الأخلاق، تمكَّن القراصنة مِن تحويل الأزمات المختلفة إلى نهج خاص بهم للعيش، وهذا ما جعلهم يتميَّزون عن غيرهم، فكلُّ مظاهر الحياة على أرض القراصنة توحي بتلك المعاناة التي صارت حياة يومية يتقاسمها القرصان مع أخيه القرصان بلؤم منقطع النَّظير، فكلَّما زاد القرصان مِن غبن أخيه كان له حظ وفير من الراحة النفسية لديْه.
على أراضي القراصنة صارت المؤسسات آلات معنوية تكسر الوافدين إليها، تبدأ يومكَ بأزمة نقل، فتتدافع كالحيوان بحثا عن مكان يقلك نحو عملك، وعندما تصل إلى تلك الزريبة التي يسمونها مجازا "مؤسسة تربوية"، تبدأ المصائب بالسقوط على فؤادك من كلِّ جانب، انطلاقا مِن المحيط الذي يعمل على كسر إرادتك، ووصولا إلى اضطرارك للتعامل مع أناسٍ هدفهم في الحياة هو تخريب كلَّ جميلٍ مهما كلَّفهم ذلك من تكاليف.
المستشفى على هذه الأرض أقذر مِن المجاري، المدارس مصانع للجهالة والجهل، البنوك صيغة متطورة للسرقة والاحتيال، الأسواق كذبة كبرى، المناسبات محطات نفاق تضع الكثير من مواد التجميل، دور العبادة وجه آخر للكذب على الله سبحانه باسم الله عزَّ وجلّ، الشواطئ مكبات نفايات، الغابات عبارة عن مراحيض عمومية وجماعية، الثانويات/الجامعات لا تتعدى كونها دورا للمواعيد الغرامية بين المراهقين والمراهقات، المؤسسات الإدارية مفرزات للرشاوي والمكر، بينما الثكنات والمراكز الأمنية هي تلعب دور التحوُّش بامتياز.
تأمَّل الأستاذ ماركيز سيجارته بين أصابعه قبل أن يأخذ نَفَسًا آخر منها، ثمَّ هَمَسَ في أُذُنِ الزَّمَن قائلا: لقد وُلِدتُ قرصانا على أرض القراصنة للأسف، لكنَّني بتوفيق من الله عزَّ وجلّ، لـن أموت قرصانا على هذه الأرض البائسة مهما حصل.