الأستاذ ماركيز واقفٌ على حافة الشاطئ يدخِّنُ سيجارته، يلبس تبانه القصير والمزيَّن بألوان العلَم الأميركي، ويطلق عيونه على امتداد أمواج البحر الأبيض المتوسِّط، يحاول توزيع أفكاره التي تجتاحه بجموح، كما يحاول أن يتلذذ بما يدخِّنه، هي لحظة سريالية يعيشها ماركيز، بعد انقضاء سنة دراسية مرهقة، ها هو يشرع في قضاء عطلته التي لن تطول كمثيلاتها، تلك التي تمتدُّ ما بين القراءة، الكتابة، التدخين ومشاهدة الأفق الأزرق يوميا.
فِكرة أن يعيش الفرد حياته بطولها وعرضها هي هاجس كلِّ قرصان على أرض القراصنة، لكن! لا أحد مِن هؤلاء القراصنة قدَّم لنا محددات "عيش" هذه الحياة، كما أنَّ ولا قرصان حدد لنا طول هذه الحياة أو عرضها، فهذه الأمور الثلاثة بقيت مجهولة، رغم ترديدها مِن طرف كلِّ سكَّان "الجنَّة ما وراء البحر" تقريبا، منذ طفولة ماركيز في الحدِّ الأدنى.
خطرت للأستاذ ماركيز هذه الفكرة بالتحديد، عندما سمع احدى إناث القراصنة تقول: "سأعيش حياتي بالطول والعرض"، بينما كانت تمرُّ بجواره، عندما كان مستلقيا على الرمال الذهبية وهو يقرأ رواية "حرّ بن يقضان" التي كتبها أحد القراصنة مِن منطقة حدودية غربية؛ إذن! كيف ستعيش هذه المخلوقة حياتها بالطول والعرض يا ترى؟ هل هي خارج نطاق العيش الآن؟ هل هي ميتة؟ هل هي بلا حياة في هذه اللحظة؟ أم أنَّ الأمر يتعلَّق بالظروف؟ هل ستشعر بأنَّها تعيش إن توفَّرت لها شروط أو ظروف بعينها؟ لما هذه الأطروحة ليست موجودة في قاموس الإناث لدى شعوب أخرى كالأميركيات مثلا؟ لما هي محصورة بحوض البحر المتوسط؟ بأوربا وشمال أفريقيا بالتحديد؟
الحياة التي ترغب أنثى القرصان بعيشها هي حياة المجون، التمرُّد على القيم والمبادئ، الانعتاق مِن كافة الالتزامات الغريزية والعاطفية، والسير عكس كلِّ ما يجعلها مسؤولة في هذه الحياة، فتفعل ما تريد، حتى وإن خالفت هذه الإرادة القوانين والشرائع، تسير على هواها، وتعيد تشكيل العالَم على حسب اعتقاداتها التي غالبا ما تكون ضدَّ الطبيعة البشرية قبل أن تعاكس المعاني الإنسانية.
تذكَّر ماركيز وهو يرمي بعقب سيجارته حدثا وقع أمام عينيْه عندما كان في مرحلة الجامعة، تذكَّر أحد القراصنة وهو يقول: سأذهب لأعيش حياتي الآن، وهو يهمُّ باللحاق بإحدى المواعيد الغرامية وقتئذ؛ لقد قرعت تلك العبارة جرسا مدوِّيا في روح ماركيز يومها متسائلا: ما معنى أن يترك الجامعة ليعيش حياته؟ هل الفترة الجامعية في قاموس هذا القرصان ترادف معنى الوفاة؟
ذلك الشعور العميق بالظُّلْمِ (Ungerechtigkeit)، ذلك الذي يتشكَّل منذ بداية تشكُّل وعي القرصان الباطني هو الذي يصنع بداخل القرصان – سواء كان ذكرا أم أنثى – تلك الرغبة في القتال من أجل مخالفة ما هو سائد، وهو من الناحية المنطقية مشروع تماما، إنسانٌ يرفض قيما ومعايير لم يشارك في صناعتها، بل وجدها موجودة سابقا، وفُرِضَت عليه فرضا يرقى إلى درجة القهر، مِن الجائز له محاربتها بكلِّ ما يملك، لكنَّ الأستاذ ماركيز يذهب إلى أبعد مِن هذا في تحليله، مفترضا أنَّ هذه البنية الثقافية/العقائدية التي تكبِّل القراصنة وتمنعهم مِن العيش قد انهارت، إذن ما البديل؟ هي ستبقى الحياة مشاعا، حتى يشعر القرصان بأنَّه حي يرزق؟
هناك تجارب مهمة لقراصنة هجروا أرض "الجنَّة ما وراء البحر"، وهُم يعيشون على أراضي لها ثقافات متنوعة وبعضها لا تمت بأيَّة صلة لما هو موجود على أرض القراصنة، ومع ذلك فكرة أن "أنا ذاهب لأعيش حياتي" لا تزال حاضرة في أدبياتهم، خاصة الكتَّابَ منهم والمؤلفين، مما يدلُّ على أنَّ الخلل ليس في تلك الثقافة الموروثة فقط، بل الخلل الذي صار عطبا محوريا في العمق الذي يبعث في القرصان الحياة، هو كامِنٌ في أعماق القرصان عينه كقرصان بالصيغة الوجودية، تلك التي ولدت ميتة، فاقدة لكافة مبرراتها وجودها منطقيا وشعوريا.