كان من فضله تعالى على أهل المدينة تلك المؤاخاة التي جمعتهم من بعد فرقة، والتي ألفت بينهم من بعد شحناء، كانت قد فرقت قلوبهم، ومن قبل أن شتت شملهم.
كم كان أمر فرقاء المدينة الخمس عجبا، وهم الأوس والخزرج وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة بمشاربهم وعاداتهم المتفاوتة، وحين أقضت مضاجعه!
كان من شأن تاريخ فرقاء المدينة، وأنه ورد إليها كل من صوبه، ما كان سببا في تنوع اجتماعي، أطحن بعضهم بعضا، وكان للإسلام فضله في جمعهم.
جاء نبينا صلى الله عليه وسلم، ليجد الأنصار، وهم ينظرون إلى يهود أعلى منهم درجة؛ لأن لديهم علما بالكتاب، وكان لهذا صداه في وجود طبقية محاها الإسلام. ومن بعد فعلها شائنا كان فيهم.
جاءت يهود من بيت المقدس، بعد فعل بخت نصر بهم ما فعل، فكانوا بسببه بمثابة غرباء على يثرب، أمكنهم فيها عملهم، إلا أنه بقيت فيهم نعراتهم.
وهذا فعله تعالى فيهم أبدا، وحين كان من سننه سبحانه عليهم ذلكم التفرق والتشرذم والتفتت والتيه! وكما قال الله تعالى ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:26].
قدم الأوس والخزرج من بلاد اليمن، وبعد فعل سيل العرم بهم ما فعل، وكانوا بمثابة يهود، مهاجرين، فكان سببا في اختلاف المشارب والبيئات معا.
ودلك على عدم التماسك الاجتماعى بين فرقاء المدينة، أنهم من كل صوب قد أتوا، وليس يجمعهم جامع عقدي أو بيئي أو اجتماعي، فكان الإسلام رابطهم ومنظمهم ومجمعهم. لا على أساس، إلا أساس واحد، وهو هذا الدين، ولأنه الزمام الأوحد، والذي به يمكن أن يجمع بين شتات الأرض، وفرقاء القوم، وكهكذا وضع رأيناه!
إن الإسلام وحده هو الدين الذي بيده جمع المختلفين، وتوحيد المتفرقين، ولأن نظرته إلى الناس أجمعين واحدة، والكل أمامه على مسافة واحدة أيضا.
كان فعل الإسلام بالأنصار أوسا وخزرجا أن جمع فرقتهم، ولم شملهم، بل وجمع قلوبهم على دينهم الواحد، حتى فعلوا فعلا كان منه بذلهم في ربهم.
عند البحث عن أرضية مشتركة لجمع شتات قوم متفرقين، يحسن بحث عن منهج سامٍ، سامق في نظرته إلى الإنسان، وحين لا تفرقة إلا بالتقوى، فكان الإسلام. ولأنه الدين الأوحد الذي علن هذا البيان علانية وامام الناس كافة وحين قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
وهذه نظرية العقد الاجتماعي في ديننا.
هدى الله الأنصار أوسا وخزرجا؛ لتواضهم، وكان من ابتلائه وحكمته أن تكفر يهود؛ ولاستكبارهم، ودلك على حميد تواضع سببا لأن يهدي صاحبه، ودلك على ذميم كبر كان موجبا لأن يضل متأبطه!
كتب نبينا صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم أي أن يدفعوا الدية بينهم، وأن يفدوا عانيهم أي أسيرهم، بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين.
وهكذا كانت أسس التحالف بين المهاجرين والأنصار قائمة على دفع دية قتيل، وافتداء أسير، وصلح بين المسلمين؛ لإطفاء شرارة قد تطَّاير يوما.
ما أجمل أن يكون الإسلام سبيل صلح، كما هو سبيل صلاح، وما أفضل أن يكون الإسلام هو أرضية تآلف لا تنافر، وموجب تلاق لا اختلاف ولا تباعد!
ذابت فوارق كانت بين الأوس والخزرج، حتى كانوا من بعدها يطلق عليهم جميعا الأنصار! وحتى كان تحالف بينهم جميعا وبين المهاجرين جميعا.
ويكأنك تنظر إلى هذا الحدث، وكما هو بين، وحين كان من فترة وجيزة لا طويلة! وحين كان قائما على تآلف القلوب، قبل أن يكون اجتماعا ظاهريا للكلمة! والذي سرعان ما يتفرق الجمع، ويولون الدبر، وعند أول صيحة بينهم! وهذا الذي رأيناه مجتمعا متماسكا، ومن يوم الهجرة النبوية، وإلى يوم الناس هذا!
كانت يثرب تموج بحروب طاحنة بين الأوس وحلفائها من جانب وبين الخزرج وحلفائها من جانب آخر، وكان آخرها يوم بعاث، وحتى جاء الإسلام فجمعهم وألف بينهم.
حالف الخزرج أشجع وجهينة، وحالف الأوس مزينة وبني قريظة وبني النضير وغيرهم. ووسط هذا الغيم جاء الإسلام ليجمع ما افترق وليؤلف ما اختلف.
جاء الإسلام وكانت بطون الخزرج عشرين بطنا! وكانت بطون الأوس ثلاث عشرة بطنا! وكان مجموعهم ثلاثة وثلاثين بطنا! ولم يك دين يجمعهم سواه!
وها أنت قد رأيت هذا الكم الهائل من القبائل والبطون! وما يعنيه اختلاف مشاربهم ومآكلهم ومذاهبهم، وإذ كانوا به فرقاء شتى!
ولما أن يأتي دين ليجمعهم جمعة قلب، قبل كلمة ظاهرية، فدلك على كم هو فعل هذا الدين، وحين كان الصمام الاجتماعي الأوحد؛ لربط الناس بينهم البين برباط التقوى ذلك خير!
كانت بطون يهود المدينة نيفا وعشرين، فإذا انضاف إليها الثلاثة والثلاثون بطنا هي مجموع بطون الأوس والخزرج؛ ليكون المجموع حوالي خمسة وخمسين بطنا! ووحد الإسلام نظامها!
فدلك هذا عند البحث عن رابط اجتماعي يرتبط به الناس، وبحيث يكونون لحمة واحدة، فدونك دونك هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد!
كانت الأرضية سبخة! وفوق التصور! وحين كان ركام هائل بين أهل يثرب جميعا، حتى جاء الإسلام لينظم ويرتب أوضاعا جديدة لا عهد لهم بها من قبل!
بلغت بنود دستور المدينة سبعة وأربعين بندا، يجمعها الموالاة في الله تعالى، والعداوة فيه، وأن المؤمنين أمة واحدة، وهم يد على من سواهم، وألا يؤاوى محدث.
كتب رسول الله ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم. [1]. [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٢ / ٣٤٨].
إن اعتراض ثلة كريمة من أولي العلم على صحة هذه الوثيقة ليس يخرجنا عن موافقتها لهكذا منهج سديد جاء به هذا الين، ململما لأوراق كانت قد بعثرت بين يدي القوم!
ولكن هكذا جمع لما افترق، ولهذه البطون الغفيرة في يثرب، وإنما كان حكمة نبوية؛ ولأنه لابد من ضبط العقد الاجتماعي أولا؛ وكيما تسهل إدارة هكذا مجتمع! وعلى أساس صحيح واحد، وهو هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد، وكما أنف.
ولكنه، وعند النظر إلى نجاح نبينا ﷺ في تجميع هذه الفصائل، وكما يقال في عرف الناس يومهم هذا، وإنما دلك على توفيق رباني كريم؛ ولأن هذه البطون قد كانت مشحونة، وأيما شحن بعيبات جاهلية، وإذ كان يمكن بها أن تقام دائرة الحرب بينهم، ولسبب، ولربما ولا سبب موجب لذلكم!
وإذا انضاف المهاجرون من مكة إلى هكذا مجتمع، لأوقفنا على كم كانت حكمة وتوفيقا ربانيين لهذا النبي العربي القرشي الأمي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أولاء المهاجرون بحاجة إلى صهرهم في هكذا مجتمع جديد عليهم، ومن كل جانب يكون الاتجاه فيه!