لا يزال الضباب منتشرا على طول الطريق كما هو منتشر على طول الحياة وعرضها، لا يزال الإنسان شقيا حتى يثبِت العكس، ولا تزال السَّعادة عبارة عن أمنية يحلم بها معظم الناس، لكنَّ الواقع بين حبالها قليل؛ هذا ما شهد عليه ماركيز عندما كان ينظر عبر النافذة إلى ذلك المنحدر السَّحيق، أين تمتزج المشاعر بالظلمات، لتقع على آخر المفردات، أين يجري الماء تحت الجسور كلِّها، قبل أن يتحوَّل بإرادته التامة إلى مثلجات.
طفلٌ يجري بأقصى سرعة على رمال أحد شواطئ البحر المتوسِّط عاريا تماما، حيث بإمكانكَ سماع ضحكاته مِن بعيد؛ هذه هي السَّعادة، وما دون ذلك سراب ينذر بالخراب؛ الأمر بهذه البساطة، بهذه السهولة وبهذا الأداء، الذي لا يقدِمُ عليه سوى المجنون بالمعنى قبل أن يكون مجنونًا بالمضامين.
خطوة بعد أخرى نحو الهَدَف، ومهما كان الألمُ المتطاير مع كلِّ حركةٍ، فإنَّه لا يتخطى كونه الثَّمن الطبيعي لما سيؤول إليه عملنا في آخر المطاف، على قَدْرِ اللّهب سيكون الصفاء، وعلى قَدرِ الصدق سيكون الوفاء، هذا ما هو مؤمِن به ماركيز كلَّما تقدَّمَ في عمر التجارب، تلك الخلاصات التي يحفظها كلُّ محارب مع بقايا شظاياه.
يترجَّل ماركيز، حوله ظلامُ دامِس، يخطو بعض الخطوات، قبل أن يشعل إحدى سجائره، فيظهر رأس السيجارة تلك بلونه الأحمر مذكِّرًا كلُّ مَن رآه بأنَّ السعادة بلا ألم لا أمل فيها، وأنَّ اللذة التي يشعر بها المدخن لا تكون سوى بمشاهدته لتلك الجمرة التي تؤدي دور المنبه للذاكرة واليقين.
حيث يسعى الإنسان/ماركيز نحو ما هو معجبٌ به، وما يدور بداخله، ويحيطُ به ويؤدي ما عليه لقاء التلذذ به، فإنَّ ذلك يرقى إلى القداسة أكثر فأكثر، لأنَّ المسألة الوجودية برمتها ليست سوى علاقة خاصة بين ما يمكن للفرد الإنساني الاستعانة به، وما يُمكن للمحيط التأثير عليه، وهذا ما فهمه الأستاذ ماركيز قبل غيره مبكِّرًا كما يبدو.
في عالَم تافه كأرض القراصنة (Die Piraten)، مِنَّ السهل على القرصان المفكِّر إعادة صياغة أفكاره من جديد وفق ما يريده ويبحث عنه، فالمنافسة الفكرية منعدمة، بينما الكثير من السذاجة، النفاق والسخافة تلوِّن هذه الثقافة، مِن الصعب على حَمَلَة المنطق أن يعيشوا على أراضٍ كهذه، وعليه فإنَّ الأمل يصاحب الألم عندما يرغبون في أداء واجبهم، ذلك المتمثل في البحث عن سعادتهم البعيدة.
ستقعُ يا قرصاني الصغير أرضا، بعدما تخزك احدى قطع الزجاج المتناثرة على رمال شواطئ القراصنة، ستخدشك حوافها، وستبكي كثيرا وأنتَ تحاول استيعاب ما حدث لك، ستجلسُ جانبا، بعدما تتمكَّن مِن إزالة سبب الألم، لو كنتَ محظوظا طبعا، بعدها تقرر البحث عن وطن لا تحتوي رماله على شظايا الزجاج الصغيرة، تلك المختبئة على بساط سعادتك، ولا تظهر سوى لتحرمَكَ من ضحكاتك البريئة.
المشيُ قصد عبور ذلك الجسر، ليس سهلا ولا مشاعا، على السائر أن يتحلى بالشجاعة الكافية لبتر إحدى ساقيْه، لأنَّ قانون العبور يحتِّم قفز العابِر على رِجْلٍ واحدة خلال عبوره، وغير مسموح له الإبقاء على الرِّجْلِ الأخرى خاملة، بل يتوجَّبُ عليه قطعها استسلامًا لمشيئة حرَّاسِ جسور العبور، إن ما أراد راحة البال بفصل المقال.
هل سيضحي الأستاذ ماركيز بإحدى ساقيْه؟
الأمر غير مستبعَد، هو يعلم العواقب جيِّدًا، وهو يدرك أيضا مدى سوء النتائج لو لم يتشجع، ما لم يحاول، ما لم يجرؤ، ما لم يكن على قَدْرِ ما يحمله من إنسانية ومجون، إنَّ اللعبة أشبه بسيجارة تحرق فؤادَك لكنها تجعلك تبتسمُ – ولو مؤقتا – هيا يا ماركيز! كُن أنت، ولو لمرَّة واحدة وأخيرة في هذه الحياة.