شغَّل ماركيز جهاز الراديو الخاص به، فانبعثت منه وشوشة لا تنتهي، وبالرغم من محاولاته الكثيرة لأجل ضبط الجهاز على رأس إذاعة صافية الصوت، إلاَّ أنَّه لم يُفلِح في ذلك، أعاد الكَرَّة مرة بعد أخرى، وفي النهاية استسلم للأمر، واقع الحال مشوَّش على أرض القراصنة، كواقع الإذاعات التي تصدر البروباغاندا الرهيبة سواءً بسواء.
فجأةً!
سمع ماركيز عبارة صريحة خرجت مِن ذلك المذياع الغريب! قال المذيع: "في أعماق وجدان الإنسانية، موقع غريب لا يزوره سوى المجانين، ششششششششش" عادت الوشوشة.
هزَّ ماركيز رأسَهُ موافقا وأضاف تكملة لتلك العبارة الجليلة بمفرده، فراح بصوت خافت يقول:
أن يجلس النبلاء على حواف الطرقات ليس صدفة، وأن يسأل الأثرياء الناس طمَعا في أموالهم ليس حرجا، أن يصبح الجاهل حاصلا على جوائز نوبل في كافة العلوم والآداب ليست لحظة تائهة، وأن يصبح المؤمن كافرا بكلِّ المعتقدات والديانات ليس أمرا غريبا، أن يقود القرصان مجتمعا فاضلا لم تعد مسألة مطروحة للنقاش، وأن ترتفع رايات الحرية في الأماكن كلّها لم يعد حقا مقدسا، فكافة الموازين هي في متناوَل المجانين، أليس كذلك؟
في لحظة عابرة، صرخ الضمير ليسمعه الجميع، ولكن لم يسمعه أحد، عادت الحياة إلى مقتنياتها الأولـى، أين كان لها الفضل في تحرير كافة العبارات والفقرات من سجون النصوص واللصوص، استساغ القراصنة فرصهم في بناء الفوضى فأبدعوا، وزادوا عليه انبطاحا حتى الزحف على بطونهم، بل تجاوزا كل الحدود بكثير حين صار القرصان قاطِعًا للأرزاق بامتياز.
أن تعيشَ بين هذه المآسي الغريبة عن العقول بمختلف القواعد المنطقية التي تسيِّرها بعقلكَ الخاص، فأكيد أنَّك مجنون يشهق جنونا غامرا، أن تعشق المجانين وتعمل على التمسِّك بما أصابك منه، فأنتَ بالفعل تريد العيش بكرامة لا يفهم معناها القراصنة المزيَّفون، إنَّها الجنَّة ما وراء البحر، أرض يلبس رجالها الأقنعة الكثيرة، وتلبس نساؤها ستائر العبودية القاتلة، لأنَّ هذه الأرض لا تعترف سوى بالصوت المخنوق، الصورة المعتمة والإنسان المشنوق، هذه الأرض اعتاد أهلها على الخوف حتى صار وجبة يومية إلزامية، فلا يخاف جوع الحياة إلاَّ بغياب ذلك الخوف عن طاولة بطشه.
ومع ذلك، وبين هذه الأمواج المختلفة من الفرار بلا قرار، لا يزال الأستاذ ماركيز، ذلك المجنون الذي يحمل بيده اليمنى – تلك اليد المباركة – مشعل الجنون ليضيء البراءة من حوله، هي صفات النبلاء الذين يعملون بكلِّ ما يملكون من شموخ، على رفع الإنسانية نحو توهجها الضائع، هُم لا يزالون رغم ما يعيشونه يوميا، مؤمنين بجدوى الحرية، التحرر والعيش كراما.
ليس هناك مجال للهوان، ليس هناك سبيل للضعف أو الاستسلام، حتى ولو كنتَ قرصانا بالوراثة والتلقين، فإنَّ القيود صُنِعت لتنكسر، وإنَّ الظلام وُجِدَ لتتم إنارته، وما أصعب مهمتك يا ماركيز، ما أصعب إقناع العبيد بأنَّهُم أحرارا!
الحياة عبارة عن مسيرة حافلة بالوقائع والأحداث، بالمباهج والأشواك، ولكنها في الوقت ذاته، هي مسلك لطيف لمَن ينتج النور ويزرع الفن على جوانب الطرقات التي يمر عبرها، فلا يستطيع الأستاذ ماركيز أن يعيش أيَّامه بلا فنون، ولا يمكنه أن يتخيَّل حياته بلا كلمات ولا قواعد تعطي الأناقة التي من شأنها أن تترجم الفوضى إلى ضوابط، تلك الأذرع الصارمة للقانون، الأمر كلّه يستحق المحاولة.
رفض ماركيز تلك العبارة التي كتبت على شاهدة قبر أحد الكتَّاب الأميركيين وقائلة: لا تحاول!
رفضها لأنَّها أولى الرسائل السلبية نحو قامات الضعفاء القصيرة، بل إنَّه اعتبرها أولى المخارز في عيون البراءة والإقدام، أليس أطفالنا أكثر شجاعة منَّا؟ هُم كذلك، فلا تقتلوا شجاعتهم بجبنكم.