حَمَلَ ماركيز آلته الموسيقية، اليوم هو أحد الأيَّام الهادئة، ذات الجوِّ اللطيف على أرض "الجنَّة ما وراء البحر"، وتوجَّه نحو احدى الحدائق العامَّة، بمجرَّد دخوله ذلك الفضاء الواسع ذا النباتات الحزينة كحزن أجيال القراصنة، بَحَثَ عن أقرب مقعد عُموميٍّ صالحٍ للجلوس، وما إِن وَجَدَ واحِدًا، حتى ألقى عليه ما كان يحمله من أشياء وأكياس، قبل أن يلقي بجسمه أيضا، وبعدها بَدَأَ يعزف أحد الألحان الغريبة؛ تلك التي اِعْتَادَ أن يعزفها بعدما يكون قد ثَبَّتَ الأوتار بشكلٍ مناسِبٍ.
هو لحنُ الحياة، يعبِّرُ عن إرادة البقاء القابعة في نواة كافة الأحياء، بعضهم – مثلما هو حال القراصنة – يعبِّرُ عنها بأشكال عنيفة وهجينة، والبعض الآخر – مثلما يفعل النُّبلاء – يقوم بالتعبير عنها بواسطة الفن، وعلى هذا الأساس لاحَظَ الأستاذ ماركيز بأنَّ الفنَّ هو عبارة عن لغة أبدية مقارَنة بحياته القصيرة جدًّا.
فجأة توقَّف عن إنتاج موسيقى، أَخَذَ نَفَسًـا عميقا قبل أن يتذكَّر ما قاله رئيس الولايات المتحدة الأميركية رقم 44 في مذكراته عن جدَّته، حيث قال: "علّمتني توت (اسم جدّته) كيف أحقق التوازن بين وارداتي ونفقاتي وكيف أقاوم الرغبة في شراء أشياء لا أحتاج إليها. كانت السبب الذي جعلني، حتى في اللحظات التي كنت أثور فيها كشاب، أقدِّرُ الأعمال التجارية الحسنة الإدارة وأقرأ الصفحات المالية في الصحف، كما كانت سبب شعوري بالدفع لإهمال المزاعم المبالغ فيها لتفكيك كلِّ شيء وإعادة بناء المجتمع من الصفر، علّمتني قيمة العمل الجاد وبذل أقصى الجهود حتى حين يكون العمل غير ممتع، والقيام بمسؤولياتي حتى حين لا يكون ذلك مناسبا، علّمتني أن أجمع بين العاطفة والعقل، وألاَّ أبالغ في البهجة حين تكون الحياة جيِّدة، وألاَّ أيأس حين تكون الأمور سيِّئة" (باراك أوباما، الأرض الموعودة، هاشيت أنتوان، 2021م، بيروت-لبنان، ص: 145).
تنفَّسَ الأستاذ ماركيز بعمقٍ ثانية، وهو يحاول استيعاب الحكمة التي جالت بين كلمات هذه الجدَّة المحظوظة، بحيث أنَّها وجدت أحد أحفادها يدرك معاني هذه الكلمات، فيسير على هداها لتقوده إلى النَّجاح الباهر.
أن يصنع الإنسان "التَّوَازُنَ" (Gleichgewicht) في حياته، بين الواردات والنفقات، ما بين الخير والشر، ما بين الجيّد والسيِّء وما بين العاطفة والعقل، أمرٌ بالغ الصعوبة، ويحتاج إلى مرونة مرنة للغاية، كما أنَّه بحاجة لتحقيق ذلك إلى صبر وثبات على الهدف، إلى جانب التحلي بالعزم على الطريقة التي شرحها المتنبي ذات يوم.
ما هو مفقود بين القراصنة هو ما سمَّاه سيِّد البيت الأبيض السَّابق بالتوازن، فالقرصان متطرِّفٌ وراديكالي في كافة المواضيع والتصرفات، شديد العناد والتعصب، بمنطق "إنَّه فيل حتى ولو طار"، وهذه الميزة هي التي تعزز الجَهْلَ بين أجيال القراصنة وتزرع الفوضى مِن حولِهم، ليصبح القانون على أراضيهم أداة للقهر، التنظيم لونا من ألوان العقاب والعمل الجاد سذاجة تقع بالهموم كلها على عاتق صاحبها.
مؤسفٌ لإنسان نبيل كماركيز أن يشاهد بأمِّ عيونه البنية الجميلة قومه وهُم يحتقرون الفنون والفنانين، يسخرون منهم، ويعملون على إيذائهم لكلِّ السبل، بينما يملؤون حياتهم بتضخُّم الذات وعبادة الفجور عند كافة المحطات، الأمر يبتعد عن أياديهم ولا يجد لعقولهم طريقا عندما يتعلَّق الأمر بتذوُّق معنى أن يقف ماركيز مبهورا بلوحة فنية رسمها أحد المبدعين، أو أن تنال منه الدَّهشة وهو ينهي كتابا يقطر بالمعاني الحكيمة التي ترشد التائه نحو سبب وجوده في هذه الحياة.
يعود ماركيز إلى العزف ثانية، بعدما أدرك بأنَّ غياب الإنسانية الحقَّة، هو السبب الأساس لاستعمال القراصنة لعنوان "الإنسانية" من أجل اضطهاد بعضهم البعض، وبعضهم الآخر يستعمل عنوان الدين ليقوم بتعذيب أبناء جلدته بالطريقة "الشرعية"، وكلا النوعيْن يحاربهما الأستاذ ماركيز بثلاثة أسلحة: الكلمة، الصورة والفن.