خرج ماركيز من "حانة الخشب" وهو يترنَّح تحت قطرات المطر الغزير في أحد أيَّام شهر أبريل من هذه السَّنة، هذا الشَّهر المعروف بين القراصنة بأنَّه شديد البرد، لدرجة أنَّ حيوان الخنزير يشعر فيه بالبرد هو أيضا كما هو معروف عند أسلافهم، سار بضع خطوات، بعدها تعثَّر بإحدى القطع المعدنية الموجودة على حواف طرقات القراصنة، صرخ بشدَّة بسبب الألــم، قبل أن يسكت لفينة من الزمن، تلك التي سمحت له بارتداء قبعته التي تدحرجت بجانبه، لكنه أعاد الصراخ ثانية بسبب الحرقة لا الألم، كانت صرخة واحدة قوية قال فيها: أتركوا نوفيلا دارندريا (Novella d’Andrea) تخرج للنور! يا جبناء أتركوها ترى النور!
وعندما لم يجبه أحد بسبب فراغ الشوارع مِن القراصنة، جَمَعَ ما بقي مِن قواه، وثب واقفا وأكمل طريقه نحو غرفته الصغيرة، تلك الطريق التي بدت له طويلة مثل طريق طموحاته وأهدافه.
يعيش القراصنة مفارقة رهيبة تجعل ذواتهم تنقسم حول نفسها، هُم يفكِّرون على الطريقة الأوربية المحضة، يشاهدون أوربا بعيون الحقوق والواجبات، يغارون من الفرنسي الذي يعيش بين أغصان الجنوب الفرنسي وشماله بحرية قلَّ نظيرها على الأرض الأفريقية، يتشوَّقون لمشاهدة الجرماني وهو يعيش حياة كريمة دقيقة على أرض جرمانيا، وعندما يحلمُ أحد أبنائهم بالهروب من الجحيم الذي يعيشه على أرض القراصنة حرفيا وعمليا والأكثر فظاعة هو يعيشه يوميا، تراهم يهرعون نحو قذف الأوربيين بما ليس فيهم، فإن كان الأوربيون عنصريون كما يقول بعض الأغبياء من القراصنة، فيجب أن نسجل لهم اهتمامهم بأبناء جلدتهم، وحرصهم على ارتقاء بلدانهم نحو المستويات التي تضمن لأجيالهم العيش في بيئة متساوية الفرص ومتكافئة الحظوظ يا أحبائي!
يُدرك الأستاذ ماركيز قبل غيره – سواءً كان ثملا أم لا – بأنَّ أوربا لها جوانبها السلبية، وهذا بلا شك موجود وحاضر، لأنَّ الأوربي ليس مَلاَكًا، لكن الأميرة أوربا وبالمقابل تبقى أقل سوء من أرض القراصنة بشكل كبير، لهذا هو يتمنى أنَّ مَن يشكُو عنصرية أوربا وهو لم يزرها في حياته، أن يكفَّ عن اتهام الناس بما ليس فيهم، إرضاء لأمراض نفسية تغطي وعيه الواهم بشكل لا يتناسب مع مقامه كإنسان.
أوربا تسرق أفريقيا، آسيا وحتى أميركا الجنوبية، وهي تفعل ذلك مِن أجل النعيم الذي يعيشه أبناؤها، في حين أنَّ أبناء القراصنة لسان أحوالهم يردد كلَّ مرَّة "يا ليتنا كنَّا ترابا"، وهذا واضحٌ في كافة عناوين شباب القراصنة وشيَّابهم، طبعا لمَن هو يبصر الواقع ومبتعد عن عمى الأوهام بشكل بعيد.
لا يرغب ماركيز بالعيش على الأراضي الأوربية وهُو الذي زارها وانبهر بمبانيها وحدائقها، بمدى دقة معاملاتها الإدارية ومدى شجاعة سكانها على سبر أغوار يومياتهم، وكم كانت مفاجأته كبيرة ودهشته ساحقة عندما قامت فتاة بعمر الزهور بإرشاده إلى أهمِّ المتاحف والمكتبات وهي التي لم تتجاوز العشرين من عمرها، وكم بقيت في قلبه كعلامة فخر مأساوي عندما قارنها ببنات القراصنة مَن هنَّ في سنها، هؤلاء اللائي لا يزلن يحلُمن بالابتعاد عن المطبخ وأشغال الخادمات، ولو ليوم واحد، أو الخروج لممارسة الرياضة ليلا ولو لليلة واحدة، فرق شاسع بين مَن تعيش حياتها كما تريد متحملة مسؤوليتها في سن مبكِّرة، ومَن تمَّ وأدها منذ ولادتها في الجهل المغلَّف بتبريرات العادات المثقوبة والتقاليد البالية أو حتى الدِّين الذي ينسبه البعض زورا وبهتانا للكتب السماوية.
مَن يذمُّ أوربا والأوربيين مِن أبناء القراصنة عليه أن يراجع حساباته جيِّدًا، لأنَّ هؤلاء الأوربيون قد قدَّموا الكثير للبشرية، وللإنسانية حسب رأي الأستاذ ماركيز، نعم! لقد احتلوا وقتلوا وشرَّدوا وكانوا ولا يزالون يبطشون بشعوب بأكملها، لكنَّ هذا مبرر في نظرهم لأنَّهم يقومون بما يقومون به مِن أجل رفاهية شعوبهم، وبالمقابل فإنَّ الاحتلال، القتل والتشريد على أرض "الجنَّة ما وراء البحر" يقوم به الكولون الجدد في حق أبناء القراصنة أنفسهم، فرق كبير بين مَن يسرق الآخرين لتسمين أبنائه، وبين مَن يسرق أبناءه ويستعبدهم إرضاء للآخرين.
عفوا أوربا، فكما يبدو فإنَّ القراصنة لا يرغبون بترك نوفيلا تخرج ليقبِّلها نور الحياة، مَثَلُهم في ذلك كمَثل مَن يسير على قاعدة: (Cuius deus venter est)، والحديث قياس!!