- مَن منع النساء من حضور أو الكلام في جنازة قريب لهن أو حبيبهنّ؟ حتى في قضية الموت أردتم تقزيمنا؟ ألستم أنتم من يقول بأنَّ الناس متساوون أمام الموت؟
دون أن يقوم بالرد عليها، أدار وجهه نحو الأفق، مشيحا عن القبر بعيونه، ليوحي بعدم رغبته في الحديث أكثر، لكن أحد الأشخاص القريبين منه قال:
- لقد تأخر الوقت! لقد وضع الشاعر في قبره، إذا أدرتِ أن ترشي الماء على التراب فوقه، انتظري انصراف الرجال ثم تقدمي، لكن قراءة الرسالة ممنوع. بالإضافة إلى أنَّ النساء ممنوعات من حضور الجنازة كما أوضح لك أخينا!
لما أرادت فحلة أن تجيب، انطلقت الزغاريد خلفها، تلك التي غطت المقبرة بأسرها. كما أنَّ الكثير من الطيور حضرت، وأخذت تحلق فوق رؤوس النسوة اللائي كن يزغردن، اقتربن من القبر، وشرعن في الغناء متحلقين حول فحلة، أمام دهشة الرجال فقاموا بطأطأة رؤوسهم.
فحلة بقيت واقفة.
النساء اللائي كن يغنين ويزغردن اقتربن من فحلة، صرن يشكلن دائرة للنور، أشعة النور كانت تنبعث منهن.
حتى أولئك الرجال الذين لا يزالون وافقين، أخذوا في الهمس وهز الرؤوس أيضا.
كان أحدهم وافقا بمفرده، ذلك الذي يسميه الجميع "مغلوب حَدَّة" لأنَّه يحب النساء كثيرا، سار نحو الناس وهو يردد:
- هؤلاء الحوريات هن حاضرات. وهو فأل خير للجمال، الله رضي على الشاعر.
بعدها انطلق راكضا، شرع في قطع أغصان شجرة "الدفلة"، منها الوردية والبيضاء، حاملا إياها لفحلة.
بعدها شاهدوا جميعهم مَن قال لفحلة "ممنوع قراءة الرسالة، هذا أمر غير مقبول"، اقترب من "مغلوب حدَّة" وراح يصرخ في وجهه:
- لعنك الله يا مغلوب حدة، يجب منع النساء من الحضور معنا، وفوق هذا أنت تزودهم بالأزهار!
- لعنة الله عليك.
التفت نحو النساء وصرخ فيهن:
- يا مَن أتيتنَّ للوقوف وسط الرجل، ألا تستحين؟ ألا تخجلن؟ ألا يوجد أوصياء يتحكمون في حياتكن!
***
أثناء الخروج من المقبرة، أقبل بختي راكضا وصارخا:
- فحلة! فحلة! لا تعتقدي بأنَّ كلّ الرجال سواء. ليس كلهم ينقصون مِن قيمة النساء. أنا صديق الشاعر – رحمه الله – لقد كبرنا متجاورين في حيِّ واحد، كنتِ أنت أيضا جارتنا. وأمهاتنا علمننا احترام كل النساء. وكل نساء الحي شاركن في تربيتنا، وتدريسنا. كل أمهاتنا وأخواتنا يعرفن بعضهن البعض ويحبن بعضهن البعض، لكن هل أدركت طبيعة هذه العادات؟ علينا العمل على تغييرها.
تقدَّم رجُل آخر مكفهر الوجه وملوحا بيديْه:
- لا يوجد قانون يمنع المرأة من الحديث في المقبرة، وهؤلاء الذين كانوا يصدرون الفتوى، نحن لا نعلم مِن أيِّ مكان أتوا. ولا لأيِّ دين ينتسبون. الأرض التي لا تحترم نساءها، هي ترمي بنفسها في الظلام. وكما قال محمد ابن بلخير صاحب الصالح المغبون: "انصتوا لحكمائكم، أعزوا نساءكم، واعملوا على صلاحكم". ونحن يا فحلة نحب نساءنا وننصت لحكمائنا، ويجب علينا الآن أن نصلح حالنا حتى نستطيع مواجهة الظلام والظلم. ونستعد لمواجهة هؤلاء الكارهين للجمال أينما حلّ، نحن راغبون في الأجود، لا نرضى بالخبز البارد، وسوقنا ليست بالمجان كحمَّام المشردين طول السنة. لقد كبرنا وسط حلقات النسوة، ونحن نعرف جيدا قيمة النساء، ونتذكر جيدا ما أوصانا به الشاعر، لقد أحبكن واليوم هو يوم توديعه. لكن قصائده وكلماته لا تزال باقية حية في قلوبنا.
من بعيد شاهدهم حسون، فأقبل راكضا، نظر إلى فحلة وقال:
- كل النساء لسن بقيمتكن، لأنَّ البلاد بأسرها تعلم بأنكن حاملات للأمل، وهؤلاء الذين كانوا يصدرون الفتوى، لن يقووا على فعل أيَّ شيء، أنتن تثبتن بأنَّ مجموعة من النحل مثلكن، أفضل بكثير من سرب ذباب يعتقدون أنهم رجال.