على أرض القراصنة تجتمع التناقضات كلها، تجد الشمس ساطعة والمطر ينهمر على رؤوس العباد في عزِّ فصل الرَّبيع، تجد القراصنة يشتكون ليل نهار مِن بؤسهم بينما هُم متمسكين به حدَّ التعصب، تجد البياض ينتحر قربانا للحياة، ثم يسجى في تابوت الليالي تحت وقع الزغاريد ابتهاجا بما هو عليه، هي حالة نادرة الوقوع، ولكنَّ الأستاذ ماركيز قد اعتاد عليها.
في حافلة كثيرة العطب وملتزما الصمت المطبق، سمع ماركيز احدى العجائز تتحدث عن نظرية غريبة، تقول هذه النظرية العبقرية بأنَّ هناك ثلاثة أنواع من القراصنة هُم الجائعون دوما ولو مَلَكوا أموال الحياة والوفاة معًا، وراحت تسرد على مسامع الجميع كيف أنَّ المعلمين، أبناء الشهداء والمجاهدين هُم الأكثر جوعا بين غيرهم.
عالج ماركيز هذه المعلومة في ذهنه كثيرا وعلى طول الطريق المؤدي إلـى تلك القرية ذات الطابع الإسباني، نعم! لكي تعيش على أرض القراصنة عليك أن تبتعد عن التعليم، عن الدفاع عن الوطن وعن الموت في سبيل هذه الأرض المباركة، عليك أن تنشر الجهل وأن تكون بالأساس جاهلا جهلا مظلما، وأن تكون خائنا لهذا الوطن.
في وطن لا يعترف فيه سادة القرار بالنبلاء الصادقين، تصبح هذه الآراء العنصرية في حقِّ أهم الفئات الاجتماعية/الثقافية أمرا عاديا للغاية، قراصنة يحتفلون بكلِّ ما هو تافه، ينشرون السخافة في كلِّ مكان وزمان، مدمنون على كافة القضايا الوسخة، يعملون بجهد حتى يظهروا في قالب مزخرف بالكذب، حتى صارت الحياة مزيفة تماما، لا المغني هو مغني، لا الكاتب له علاقة بالكتابة ولا الأستاذ له رابطة بالعلوم والمعارف.... الخ.
رحم الله المؤرخ قاسم سعد الله، فقد أوجز مشكلة القراصنة في جملة واحدة: "المعلمون والمثقفون على هذه الأرض مكروهين مِن الجانبيْن، مِن الدولة ومِن الشَّعب"؛ وهذا ما يراه ويعيشه الأستاذ ماركيز يوميا واقعيا؛ بينما تنظيرات القراصنة كلها تحث بنفاق واضح على احترام التعليم والمعلمين.
الشوك لا يعطي لا رحيقا ولا مذاقا جميلا، كذلك القراصنة، وكلُّ دقيقة تمرُّ فيها على ماركيز بينهم تؤكد له هذه الصورة الواقعية بشكل أكثر بروزا، لهذا يصبح الحق في البحث عن وطن جديد لماركيز حقا مقدَّسًا عندما يتحوَّل الوطن إلى أخطبوط يلتهم النبلاء مِن أبنائه المخلصين.
لكنَّ الأمر وبالمقابل عند ماركيز مختلفا، هو لا يرى في وطنه عدوا، رغم كلِّ ما يلاقيه بسببه، لا يرى فيما يحصل له أمرا غريبا، لأنَّ ابن الوطن في كافة الأوطان، هو الإنسان غير المستفيد من امتيازات الأوطان عينها، فهذه الأخيرة غالبا ما يستفيد منها الجبناء والأوغاد، وماركيز طبعا ليس واحدا مِن هؤلاء.
ومع ذلك هناك مشاعر متناقضة تغزوا هذا الفيلسوف، هو حائرٌ بين الأوراق والجذور، بين الأحلام/المستقبَل، والعراقة/التقاليد والقيم السامية، لا يزال متأرجحًا بين ما يريده وما يجب عليه حفظه بإيمان غزَّ نظيره في كافة الثقافات والفلسفات، الأمر صعب جدا، هي وضعية خانقة عندما يقف الإنسان على مفترق الطُّرق، وعليه اختيار أحدها ليمضي قدما، إمَّا الطريق الإيطالية أو الطريق الأميركية؛ وهُما ضدان لا يجتمعان.
هو حوار سيطول بشكل لا يمكن لأحد توقع نتائجه، هو حوار مباشر وصريح يخوضه الأستاذ ماركيز مع ذاته العميقة، يكتشف به نفسه مِن جديد، لأنَّ المعركة الأكثر أهمية خلال عبور الإنسان هذه الحياة، هي تلك التي يخوضها ضدَّ طموحاته كحليف لمبادئه، هو تمرُّد مِن نوع فريد، هو ثورة على الجموح.
السير على خطى ماكسيموس مكلف نفسيا ومعنويا، وتبني أسلوب الرجل السابع خطوة خطيرة للغاية، وما بينهما نجد الأستاذ ماركيز مترددا، حذرا وحاملا لطاقة هائلة يقاومها حتى لا تخنقه بحيويتها.