إن للمرأة المسلمة في هذا الدين قيمة عظمى؛ ولأنها قلادة وتاج ووسام على رؤوس القيم والمبادئ والهمم والشيم والنبل والأخلاق الحميدة والبذل والعطاء والتفاني.
ولأجل هذا جعل لها ديننا مكانتها التي تناسب عطاءها وبذلها هذا، وحين كانت يدا يمنى لزوجها، ولما أضحت ساعد العطاء والبذل لشريك حياتها، وها نحن ندَّارس قصة هذه أسماء بنت أبي بكر، وما تحملته مع الزبير بن العوام زوجها رضي الله تعالى عنهم، ومن سبيل الحق والنصفة، ومن طريق الاعتراف بالفضل لكلٍّ، وحين كان هذا الزبير ليس يملك من زاد الدنيا الكثير، وما كان عليه حال كثير من الصحابة يومهم هذا، وحين صبروا، واحتسبوا صبرهم هذا على الله تعالى مولاهم الحق سبحانه، وحين زوج أبو بكر -وقد كان غنيا- ابنته أسماء للزبير هذا، وقد كان فقيرا، ليس يملك من شيء وسوى قطعة أرض ملكه إياها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا تحكي أسماء راضية، وهكذا تقصص علينا، وليكون دربا منيرا لأخواتها المسلمات المؤمنات القانتات التائبات العابدات السائحات، ومثلا يحتذي، وسبيلا يقتدي، وعلى طريق الفناء في هذا بيت الزوجية العامر بهذا الذي نحسبه تاريخا مضيئا من صفحات هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد، وحين ترك لنا إرثا وزادا عرفنا منه قيمة المرأة المساندة، وشأن الزوجة المساعدة، ودور الأخت الراعية، ولأنها مجتمع هذا بذله، ولترقى أمة هذه بناتها.
ولكن الذي نقف عليه هو هذا العمل الذي كانت تقوم عليه أسماء محتسبة راضية، وغير أنها كانت عليه متوافرة، وإذ ها هي لم تعتمد على كون والدها كان تاجرا غنيا، وحين زوجها هو الآخر من هذا الزبير الفقير، ولعل الله تعالى يحدث بعد ذلك أمرا، بل تمرسا وفي أحوال الدنيا، ومن بعد ضيق وبأس، وعند فقر وعوز، وحاجة ولترضى ويرضى كل عبد ويوم أن يتبوأ مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وإذ كان المهم هو السعادة الثانية، في الدار الآخرة، وإذ كان الشأن هو الرضا بالقسمة التي قسمها الله تعالى رب العباد على العباد، وها هنا تكون السعادة حق السعادة، وحين يقنع العبد بأعطيات مولاه، ولما يرضى بقسمة ربه، ومنه، وهباته تعالى، وأن الله تعالى ليعطي للعبد أو يمنح وإنما ولحكمة يعلمها، ولما كان من ظاهر ذلك هو الابتلاء، وحين العطاء أيشكر عبد، أو وقت الابتلاء حين المنع فيصبر عن رشد، وهذا الذي حدث صبرا للزبير، وهذا الذي وقع صبرا من أسماء مثله، والعاقبة للمتقين.
ولكنك وقفت على كم كان بذلها، ومن ذات الوقفة قد رأيت أنها لم تزاحم رجلا، ولم تختلط في سوق عملها بشيء من ذلك، وهذا أمر جد مهم، ولأن هذا الدين قد وقف من مسألة الاختلاط بين النساء والرجال موقفا حسما، حزما ومنعا، وحين قطع دابر الاختلاط أو أشباهه، ولأن هذا الاختلاط هو العامل الأول من عوامل هدم الأسر، وإتيان على البنيان من أصله فيقتلعه ويهدمه ويحطمه ومن بعد ان كان قد شل أركانه!
ولأنه هذا الاختلاط هو ذلكم الداء الأعظم من وراء الفتنة، ومن قضاء على المروءة والحشمة، ومن قض لمضاجع الأسر، ومن فتنة عند اللبنة الأولى من بناء المجتمعات، وحين أطلق الناس الحبل على الغارب، ولا ثمة فارق أو حد ولا ثمة فاصل أو حاجز أو مانع! وحين استوى المحرم مع غير المحرم! وهذا داء قتال، وهذا بلاء فتاك، ويحسن بالناس مراعاته، ويجمل بالمتقين مجاراته، ولما قد أراد الناس عيشة هنية، ولما استشرفوا حياة هانئة رغيدة شجية، يرفرف عليها ظل السكن، ووارف الرضا، وموجب العفاف أيضا.
ولكنك قد رأيت خدمة المرأة لزوجها، راضية مرضية، ومقابلته شأنه؛ من سعادة، ومبادلته نصبه؛ ومن رضا، وحين كان الزبير هذا ليس قعيد بيته، ولكنه هو ذلكم الباذل نفسه ووقته للجهاد، وحين خرج ذبا عن دينه، وها هي امرأته بنت أبي بكر تقوم على فرسه إطعاما وقياما وإسقاء. و ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء:33].
ولكنه وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وحين رآها وعلى حالها هذا، فأناخ راحلته؛ وكيما تركب معه؛ ومن خلقه؛ شفقة عليها، ورحمة بها، وإذ ها هي مثقلة بالنوى حملته، وإلى فرس الزبير أعدته، وإذ ها هي يعلوها رهق وتعب ونصب شديد.
ولكن وقوف الناس على هكذا عمل للنبي صلى الله عليه وسلم، وحين اتخذوه بدس وطعن؛ وأنى لهم؟! وهذا هو النبي قد أناخ الراحلة، على قاعة الطريق، وعلى مرأى الناس، غدوهم ورواحهم، وإذ ليس يلزم من الركوب مماسة، وهذا أمر مشاهد وإلا عند ذي قلب أنين! وما نبينا إلا هذا الطاهر الصادق الطاهر الأمين.
وهكذا ينتهي الأمر، ووقوفا عند هذا الحد العظيم، ودون ولوغ في جانب أطهر رجل عرفه التاريخ، وكذا امرأة ذكرت حياءها، وادَّارَكت كرامة زوجها، وغير بعلها، ولم تفعل ذلك لذانك الشيئين، وكرما فعلت، وحسنا نهجت.
وهذه امرأة تلقي بالها لغيره زوجها، وهكذا كل الأزواج يغارون، وحسن لكل امرأة عفيفة فعل ما فعلته أسماء.
ولكن الزبير هذا قد كان عليها شفيقا رفيقا، وحين ذكر أن نصبها طالها، وإذ كان وقعه عليه شديدا، ولما كان منه رهقها وتعبها، ومن حملها النوى ومن مسافة أربعة الكيلو مترات!
وإذ ها هو يلتمس العذر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحمل، ولأنه يعرف ألا خلوة، ولأنه يدرك ألا مماسة، وإذ ليس من موجب ركوبها خلفه صلى الله عليه وسلم أن يتلامسا، وحسبنا.
ولكن هذا أبو بكر والدها، وحين قد ادَّارك شأنها ونصبها، فأخدمها، وهو القادر على ذلك، ومن فضل ربه ومولاه، ولما لم يتكلم حرفا واحدا، يعرف به إحراج الزبير، وها هو قد زوجه أول أمره، وإذ كان يعرف حاله، والرجال ليسوا بأموالهم، وانما هم بدينهم، وورعهم، ومروءاتهم.
وهذا الذي رأيناه من شأن الزبير، ورضي الله عنهم أجمعين وصلى الله وسلم على هذا النبي العربي الأمي القرشي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أسماء بنت أبي بكر: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء؛ غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ،فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثم قال: إخ إخ؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. []. [صحيح البخاري: 5224].



تعليقات