هذه هي الآية الثالثة من سورة المائدة، وكما هو بين من ألطافها، هو ذلكم تقاطر الدمع من وجنتيها، وانهمار المقل من حواليها، وانسكاب الشجون من ضفافها، وتهاطل السكون من موجاتها، المتهدهدة، وليس من عهدها، بل فورانها، وثورانها، وتسارعها، وتجديفها، وتداخلها، وتراكبها، وقد تناست عهدها، ووقفت تحكي قصة الألم، وحكاية الثلم، وحين رأت هذا النبيَّ يرقى عرفات ملبيا، وإذ لم يكن يعلم أن هذا هو أخر عهده به، بأبي وأمي ونفسي هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكأنه الكون كله قد أرخى سدول الغشية، وقد أنزل أستار الخشية، وإذ ها هو يرقب نبينا يصعد عرفات الله تعالى ربه، ملبيا، مناديا، داعيا، خاشعا، متبتلا، قانتا، ويكأنه يهطل دمعا، ويكأنه يسكب حزنا، ويكأنه يرقب من بعيد هذا العهد الذي ملأ الكون عدلا، ورحمة، وإلفا، وسماحة، وعفوا، وحلما، ورحمة، ونبلا، وشيما، وقيما، وهمما، تسامت من عليائها، وتعالت من سمقها، وتنادت من علوها، وإن ههنا محل العبرات، والزفرات، وإن شمس الهدى قد حل يوم مغيبها، وأن قمر النور قد اضمحل خفوتا، ويكأنه من زينته بدا يغالب النهار يوما، ويكأنه من سكونه علا يقارب الشمس ضياء، وعطاء، وهبة، ومنحا، وهما أولاء يضفيان على الكون ظلال الفراق، وها هما يطلان إطلالة الموادع، وعن قريب، ويكأنه الكون، تراه باكيا، ويكأن وجودا تحسبه منكسا، وها هي عينه دامعة، وها هو قلبه قاطرا، وها هو فؤاده حاسرا، وقد قرأ في عناوين الكون وصفحاته، ومن خلال دفقاته ونبضاته، هذا النبأ العظيم، وهذا الخبر المبين، ويكأنه استحضر سنن الله الباقية، ويكأنه عايش ما كان خبرا مواتيا، ويكأنه وعن لمح بصر سيحياه طوعا، أو كراهية، وكم من نجم قد أفل يوما، وكم من ضياء قد انخفت يوما، وكم من نور قد تهدهد يوما، غير أن الحق الذي لا ريب فيه، هو ذلكم النظر، والعبر، والبصر، واللمح، ولجلجة الصدور، وغليان المراجل، واضطراب الأحاسيس، وتداخل المشاعر، واهتزاز الأوتار، وعند القراءة مرة أخرى، ولدى التلاوة كرة ثانية، ولاستحضار ما وراء الكلم، وإذ وراءه ما ليس يقدر قلم عن وصفه، وما ند بيان عن نعته، ومرة أخرى، وحين يسمع، أو حين يقرأ، أو حين يخبر، أو ينبأ، وإذ كل ذلك من معنى واحد، وإن اكتنفته تعابير الألسن، وبيانات الأقلام، وهمهمة الجفون، وإذ هي تحاول أن تغمض مرة، وكيما لا ترى حدثا حملته الآية، أو أن تتسمع حدثا بعثته الآية، أو أن ترى ولو من بعيد بصيصا يقصص قصة الفراق، ونبأ يحكي رواية البعاد، ومن بعد صحبة غنى لها الكون أغنيته، وأنشد لها الوجود أنشودته، وكتب لها البلغاء ما سطره بيانهم الساحر البيان، وحين استحضر هؤلاء وهؤلاء قول رجل، صاحب الإنس، وأبلغ الجن، وترنم القرآن، ودعا للرحمن، وأسلم على يديه الجن والإنسان، وقد عم الكون نور هديه، وقد اكتست الأرض بقناديل سعيه، ووحيه، وإذ ها هي تناظر حولها، وهل من مصدق لما آل به معنى آية المائدة، وما قد حملته إلى القارئين، لطيفا، رفيقا، حانيا، من تهدهد، ومن ترفق بأولاء أناس، عاشوا الهدى، من صورة هذا النبي، وصاحبوا الخير، من دلال هذا الرسول، واستقوا النفع كله، من في، ولسان، وبيان هذا الرسول، وإذ ها هو نلمحه، ونبصره، ونراه، وقد رأينا ميراثا خالدا، يهدي العالمين، كل العالمين، ويكأنه لذلك ترى الدمع حزنا، ومما لا يطاق خبره، وكما لا يكاد يستحضر شجيه، ولولا أن الله تعالى قد تحملت آياته الخبر، ولولا أن الله تعالى قد تراسل قرآنه النبأ، ويكأنه من لطف العبارة، ويكأنه بحنو الإشارة، وأن يوما وعساه ألا يكون وقد قرب عهده، وأوشك قدومه، والناس ما بين شاك به، ومصدق به، ويكأنه عمر الفاروق، قد عنه عبر، وأبان، وأوضح، وابن عباس الإمام الحبر الترجمان، وحين أنزل الله تعالى قوله الحكيم، وخبره اليقين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

وكذا وحين قال الله تعالي ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر:1-3]. وحين قال الله تعالى أيضًا ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281]. وحسبنا!

ولكن حجة الوداع ويكأنها وداع هذا الرسول للدنيا، وقد حل يوم ميقات ربه، والأجل الموعود.

وقد أسموها حجة الإسلام؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم أدى بها فرض ربه، الحج إلى بيت الله الحرام، وإذ كانت هي حجته الأولى ومن بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ولما جاء هذا وقتها، وبه علمنا ان الحج وقد فرض عامه التاسع أو العاشر وعلى قول في ذلك.

وقد أسموها حجة البلاغ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ فيها أمر ربه، وأبان عن أصول الملة، وأوضح قواعد الشريعة.