الغبارُ وهباؤه يتطايران حول الأستاذ ماركيز بينما هو يحمل بين يديْه رواية "فحلة"، تلك الرواية التي كتبها صاحبها باللهجة المحلية، مستعملا في طبعها الحروف العربية تارة، وتارة أخرى الحروف اللاتينية، وكما وصفها صاحبها – أستاذ بجامعة وَهْرَن في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا – هي فاتحة طريق لأدب محلي على أرض الجنَّة ما وراء البحر.

تدور أحداث رواية فحلة بشكل غريب للغاية، وبطريقة سردية أنيقة على طريقة حكايات الأجداد، ترسم هذه الرواية حدود الصراع بين "عسكر الظلام" من جهة، وفرقة "الفرحة والزين" مِن جهة مقابلة.

ما تُثيره رواية "فحلة" هي اللغة المستعمَلَة في سرد أحداثها، هي لهجة محكية اعتاد القراصنة على استعمالها منذ نعومة أظافرهم، هُم يستعملونها في الأسواق، المحلات التجارية، في الحافلات، في الحدائق والمساحات العامة، لكن ولا مرة تجرأ أحدهم على الكتابة بها بهذا الشَّكل كما جال في ذهن الأستاذ ماركيز، مع وجود الكثير مِن الأشعار الملحونة المحكية والمكتوبة، والتي يرددها أحفاد القراصنة مثلما رددها مِن قبلهم آباؤهم وأجدادهم.

ما تثيره اللهجة المحلية التي استخدمت في سرد أحداث رواية فحلة، يتقاطع مع ما هو مطروح على أرض الجنة ما وراء البحر، لأنَّ شرق هذه البلاد الشاسعة يتحدث لهجات تختلف من مساحة ضيقة إلى أخرى، بل قد تطفو على السطح اختلافات لجهات كثيرة في المنطقة الواحدة، وهنا نجد الكثير مِن المشككين الذين يطرحون سؤال "زرع بذور الانفصال" بين صفوف أبناء الوطن الواحد؟ فكيف للذي يكتب بلهجة أقصى الغرب أن يفهمه القارئ الذي يبعد عنه عشرات الكيلومترات ويسكن عمق الصحراء، بينما هو لا يدرك الكثير من مفردات القاموس اللغوي للكاتب المحلي ذاته؟

مِن جهة مقابلة نجد أنَّ الكثير من الأفلام التي صورت في مرحلة الثمانينات من القرن العشرين واعتمدت في تقديم أحداثها على اللهجة المحلية، قد صارت أيقونات لدى كافة أبناء الشعب، من أقصاه إلى أقصاه، كما أننا نلاحظ نجاح الكثير من الكوميديين الذين يعتمدون اللهجة المحكية/المحلية في تقديم عروضهم، وها هُم يحتلون قلوب كافة أبناء الوطن كذلك.

ما يُعاب على الكتابة باللهجة المحلية كما يرى الأستاذ ماركيز هو أنَّها لا تزال حبيسة سجون اللهجات، ولم ترتقِ بعد إلى مستويات اللغات الأكاديمية، فهي بلا نحو، ولا صرف ولا حتى قواميس تجمع مفرداتها، كما أنها لا تتعدى حدود المنطقة الجنوبية للبحر المتوسط، أين يتعامَل الجيران فيما بينهم بها مع تنوع رهيب للمفردات والمصطلحات وحتى اللكنات، بجوار لهجات أمازيغية كثيرة.

لكن؛ وهذا واضح بشكل شامل في رأي ماركيز، هي تلك المساندة الكبيرة لهذه المبادرة، رغم أنَّه يجدر التنويه بأنَّ ماركيز نفسه – كونه قرصانا – قد حاول قبل عدَّة سنوات أن يكتب بلهجته المحلية، وبعد طول صبر وبإصرار كبير، تمكن من كتابة مقال بها، وقد تقدَّم خطوة أخرى بحيث قد أرسله إلى الكاتب "أمين الزاوي" الذي ردَّ عليه شاكرا إياه وقائلا له بالحرف الواحد: الله يعطيك الصحة.

ومع ذلك وفي خضم محاولة ماركيز للكتابة بلهجته المحلية، فإنَّه وجد نفسه أمام مشاكل تقنية كثيرة، فبالإضافة إلى انعدام الدعائم الأساسية التي تمة الإشارة إليها سابقا لهذه اللهجات لترتقي إلى لغات، فقد وجد الأستاذ ماركيز نفسه أمام تحدي استعمال البرامج التقنية أثناء الكتابة، وخاصة في مرحلة مراجعة ما كتبه، لأنَّ كافة الكلمات المستعملة في اللهجة المحكية/المحلية هي كلمات جديدة على قواعد البيانات المختلفة، ممَّا تعذر التفريق بين ما هو صحيح لغويا وتركيبيا وما هو خاطئ، وبالتالي فإنَّ الصعوبات الرقمية قد دفعت ماركيز إلى الانكماش حتى موعد عثوره بين أروقة مكتبة الشمس في قلب مدينة الفن والتاريخ على رواية فحلة، تلك الجوهرة المحكية بطريقة شعورية عميقة.