السَّماءُ تمطر بغزارة، الساعة تجاوزت الخامسة والنصف فجرا، يحمل الأستاذ ماركيز محفظته ومظلته المهشمة، وهو يسير بين ظلمات الليل تحت أشعة الأنوار على أطراف الشوارع الفارغة، إلى أن خطرت بباله أسئلة كثيرة تدور حول الحياة، الوفاة، الثقة، العائلة/الأسرة والكثير مِن الأفكار التي تجعله يتحمَّسُ حينا وتفتر إرادته البحثية أحيانا أخرى.
أهمُّ تلك الأسئلة التي جالت بعُمقِ ماركيز كانت حول أهمية الحياة لديْه، عن مدى تمسُّكِه بالمسار الذي يرغب فيه ويحلم به، عن القادِم مِن الأيَّام، عن المجهول التي ينتظره بين الفينة والأخرى، عن مدى القيمة النفسية التي تستحوذ عليْه، عن القدرات الرهيبة التي تتساقطُ منه كما تتساقط أوراق الشجر في موسم الخريف.
يشعر الأستاذ ماركيز بأنَّه أمام مرحلة حاسمة مِن حياته، المغادرة صارت حتمية، لكنَّ الطريقة هي التي لم يستطع أن يرسمها بعد، هو حائر ما بين تفجير كلِّ شيء بعد رحيله وإغلاق باب عودته للأبد، أو الإبقاء على شَعرَة معاوية بعده؛ وهنا مربط الفَرس، لقد اعتاد الأستاذ ماركيز بعد مغادرته ألاَّ يترك خلفه سوى الخراب.
مِن الصعب أن يواجه الإنسان أحباءه، أن ينحت طريقا بيديْه دون مساعدة، لقد اعتاد ماركيز على القيام بذلك، لكنَّ مرحلة كهذه، أين يصبح سؤال "لا عودة" "لا رجوع" (without return)، هو أهمُّ الأسئلة، مِن القِيَم التي حملها ماركيز طيلة حياته، هي قيمة العائلة/الأسرة، لقد نما على عقيدة حماية العائلة والأسرة بالخصوص بكلِّ ما يستطيع، معتبرا الأسرة هي منبع الانبثاق وهي المآل الاجتماعي الأخير، هي العقيدة الإيطالية بخالص تشكُّلاتها، فهل سيواجه ماركيز نفسه؟ هل سيقرر ماركيز التخلي عن المكمن الذي لطالما واجه الجميع مِن أجل الإبقاء عليه قائما؟ هل سيحطِّم ماركيز أحد مقدَّساته؟
يؤمن ماركيز بأنَّ آخر العقبات قبل "انطلاقته الكبرى" هُم الذين يسهرون على رعايته منذ كان طفلا خضوعا لقوانين تجمُّع القراصنة، هو يرى بأنَّ تدخُّلاتهم في حياته هي العائق الأهم في هذه المرحلة أمام عبوره إلى حقبة مغايرة تماما لما اعتاد التعامل معه، يحتاج الحسم في هذه المسألة إلى شجاعة كبيرة.
مَن يعرف ماركيز جيِّدًا، يعلم مسبقا بأنَّ هذا الإنسان مِن أشجع الناس الذين قد تصادفهم خلال رحلة عيشك في هذه الحياة، بهذه الخاصية تمكَّن سابقا مِن عبور عقبات اجتماعية ونفسية بشكل خرافي، لقد جمع كافة الحجارة التي سقطت عليه خلال سيره نحو أهدافه، وبنى منها قلعة فكرية/ثقافية بشكل يعجز العقل عن تصديقه.
ليس غريبا أن يختار الأستاذ ماركيز مواجهة العائلة/الأسرة إن ما تأكَّد له بأنَّهم صاروا عقبات أمام مشروع حياته الجديد، خاصة وأنَّه لم يعد يشعر بالأمان في البيت الذي بناه حجرا بحجر مع والده – نصره الله –! الأمر يبدو اعجازيا، لكنه ليس غريبا عن ماركيز أبدا؛ عندما تختفي الثقة من علاقتك بالأستاذ ماركيز، فإنَّ ذلك يُعتبَر دليلا قويا على ظهور أولى أسطر مقدمة نهاية تلك العلاقة التي تجمعك به، والتاريخ الشخصي لهذا الماركيز حافل بعلاقات قد أنهاها ماركيز عينه بقوة وبشكل يكاد يكون مطلقا.
اعتدنا على جرأة ماركيز المجنونة، اعتدنا على مواقفه الثابتة، اعتدنا على سيره بجانب الهاوية، اعتدنا على قوَّة تصميمه على المضي حتى النهاية، اعتدنا على جنونه الذي جعل منه إنسانًا يحترمه الشرفاء ويكرهه الجبناء حدَّ الهَوَس؛ وهذا ما يجعل منه إنسانًا متفردا بين أبناء جيله المخضرم.
سيغادر ماركيز هذه الحياة التي يعيشها على أراضي الجنة ما وراء البحر، هذا قراره الأخير والحاسم، سيغادر هذه البلاد التي يديرها الثعابين بقهر المخلصين والنبلاء من أهلها، والمسألة لم تعد سوى مسألة توقيت، والعارف بماركيز ودقته، يعلم مدى تقديسه للزمن والمواقيت في حياته، لكنَّ المبهم حتى اليوم هو: هل سيحرق سفينته التي تصل بينه وبين الأسرة الصغيرة بعد عبوره مضيق نفسه الطارق أم لا؟ الأيَّامُ بيننا، وكما يردد ماركيز دائما: لكلِّ شيء توقيته الخاص.