بدأ ماركيز يخطُّ بعض الكلمات على دفتره الخاص، هو يكتبُ الكثير مِن الملاحظات التي تزعِجُ القراصنة – وهو فخور بذلك – أين يرى فيما يفعله – فعل الكتابة – نعمة أنعمت بها السَّماء عليه، فبعدما جَلسَ يدخن غليونه، بدأت الأفكار تنساب على ذهنه كما تنساب زيت الزيتون الصافية على ألسنة العذارى، هو فنَّانٌ في رَصْف المعاني ونسج الكلمات.

كتَبَ ماركيز يقول:

على أرض القراصنة كلُّ الجوانب مظلمة، حتى النور صار معتادا على الظلام والظلمات، ومن غرابة اللغة، فقد تعانق الظلام والظلم على القَدر نفسه أمام محراب الجذور اللغوية، فكانا رفيقيْن دائمَا الحضور على مسارح الحياة فـــي "الجنَّةِ ما وراء البحر"، هذا ما أنتجَ عبيدا مِن أسوأ ما خلقه الله سبحانه وتعالى.

على هذه الزاوية مِن الأرض – أرض القراصنة – الميكانيكي يصبحُ معلِّمًا، المعلِّمُ يداوي جراح الناس ويصف لهُم الأدوية، بين الراعي يصبحُ كيميائيا يبيع في الصيدليات العقاقير والمسكنات، الفقيه يصبحُ مشعوذا، الحارس يصبحُ مديرا، والنسر يصبح حمامة، بينما الذئب يستقيل قبل أن يمسكَ بأولى طرائده.

لا أحد يقدِّمُ استقالته على أرض القراصنة – ما عدى الذئاب؛ هي الوحيدة التي لها الشجاعة لتستقيل – أمَّا القراصنة، هُم لا يعرفون ما معنى كلمة "استقالة" (resignation) لأنَّهُم لا يفكِّرون بترك ما هُم فيه، حتى ولو جار عليهم، بل اعتيادهم على المظالم والظالمين جعلهم يؤمنون بحياة البؤس التي يعيشونها بأفراحٍ تحاكي الأنين بأثواب الحنين.

في نفسية كلِّ قرصان هَوَسٌ غير محدود بالسُّلطة، لا يهم ما نوعها وما مصدرها، في كلِّ قرصانٍ ذلك الغِلُّ الذي يصنع منه ساديا غير قادر على تجاوز الإهانة (the insult) التي يسلِّطها عليه الجميع، فيحاول بدوره رميها على الكلّ، وهذا ما يجعل ماركيز في كثير من الأوقات يهتزُّ روحيا بشكل عنيف، فتجري دموعه كالأنهار لتعمِّد على محيَّاه آخر الابتسامات الساخرة/الماكرة.

لا يستطيع ماركيز أن يتخيَّل كلبا قد صار أسدًا، مع أنَّ القراصنة مِن حوله لا يأبهون لهذه التصرفات، لأنَّ منطقهم غائب، وضمائرهم قد مسَّها التخدير كما يمسُّ الجن الإنس على فترات؛ لقد فهم ماركيز بأنَّ آليات القراصنة تعشق كلَّ الموبقات لتبقى، وتتشبثُ بكافة أذرع العفن لتستمر، وهذا ما لا يقبله لوجوده الطَّاهر أبدا.

يرى الأستاذ ماركيز بأنَّ الاستقالة الوحيدة التي تعترف بها بلاد القراصنة هي استقالة عقولهم مِن مؤسسة الحياة، أمَّا الباقي فمحكوم عليه بالبقاء بين جدران الضياع والرداءة إلى يوم الدين، وهذا ما يدفع ماركيز إلى اليقين الذي يرى بأنَّ ما هو مطلوب لدى الفيلسوف في وضعيات كهذه، هو الإبقاء على عقله صافيا نقيا، عامِلاً؛ ليحفر بأفكاره لنفسه سبيل النجاة.

عندما يغيب العقل تغيب الحرية، وعندما تغيب الحرية يغيب الضمير، وعندما يغيب الضمير تغيب الحياة؛ هذا ما جعل ماركيز يغمض عينيْه؛ محاولا تجاوز لحظة سماعه لعواء ذلك الذئب العجوز، الذي صعد جَبَل "عصفور" حتى تسمعه منطقة "كولورادو" بأسرها.

عذابٌ رهيب يصيب الذات عندما تسبق هذه الأخيرة محيطها بشكل فَلَكي، ليس مِن الصَّعب أن تلعب دور الأنبياء والنُّبلاء على أرض تمقته لدرجة الخيال، ليس من السهولة أبدا أن تقول للأبكم أنتَ أبكم على أرض القراصنة، لأنَّ الأبكم في هذه المناطق من العالَم والتاريخ، يُقال له دائما: أنتَ عندليب الأزل يا عذب الصوت، يا صاحب الحنجرة الياقوتية؛ ولهذا السبب بالذات، خسر الأستاذ ماركيز الكثير من القراصنة على طول طريقه نحو لتعقُّل، هو يدرك تماما بأنَّ ثمن وصفه للأشياء بما فيها مِن خصائص، وتسمية الأمور بأسمائها، سيكون فوق طاقاته التي غالبا ما تعيد تذكيره ببشريته الناقصة.