دخل ماركيز تلك المقهى كعادته وهو يحمل جريدة "الجمهورية"، وقبل أن يجلس طَلَب مِن النادل كوبا مِن الشاي مع بعض الحليب، بعدها جَلَسَ يتصفَّحُ الجريدة ملقيا نظره على الكثير مِن العناوين المختلفة، أهمُّها حسب الأستاذ ماركيز هي الأخبار الثقافية والفنية، ثمَّ تليها المعرفية والعلمية، وقبل أن ينهي جولته اليومية تلك، يمرُّ بالصفحة الرياضية فالسياسية قبل أن يقرأ عموده المفضَّل دائما.
لبَّى النادل طَلَبَ ماركيز واضعا كوب الشاي بالحليب على الطاولة وملقيا التحية قبل انصرافه، فراح ماركيز يتذوَّق الشاي بالكثير مِن الاهتمام، مراقبا باب المقهى والجوَّ الربيعي الذي يسود ذلك اليوم مِن شتاء هذه السنة، وإذا بالباب يدفعه أحد السَّادَة، يحمل محفظة، ويمشي بخطوات وقورة، خمَّنَ ماركيز بأنَّه "أستاذا" في احدى المؤسسات التعليمية التابعة لسلطة القراصنة، ومع ذلك لم يعره الكثير مِن الاهتمام.
تقدَّم ذلك الرجُل باتجاه ماركيز مبتسما، ثمَّ عَمَدَ إلى الجلوس بجانبه على أحد الكراسي وهو يقول: هل تسمحُ لي يا أستاذ ببعضٍ مِن وقتك؟
- طبعا! تفضل.
عدَّل الرجُل جلسته، ألقى بمحفظته جانبا، ودون أن يغيِّر ملامح وجهه الباسم، مدَّ يده نحو ماركيز مصافحا.
- شكرا لك يا أستاذ ماركيز، أنا برونيلو[1] مِن صحيفة "الشروق"، وأرغب بالحديث معكَ منذ زمن طويل.
-
- صحيفة؟ سأل ماركيز وهو لا يدري ما يقول ومصافحا ذلك السيِّد.
- نعم هي الشروق، منذ مدَّة طويلة وأنا أحلم بهذا اللقاء – لكنَّه سرعان ما ذابت ابتسامته عندما شاهد صحيفة "الجمهورية" على الطاولة – آه نعم! إذن الأستاذ ماركيز ليس زبونا لصحيفتنا!
- إذا كنتَ تقصدُ "الشروق" فأنا هجرتها منذ زمن بعيد، منذ المناوشات التي تمت تغطيتها بين فريق القراصنة لكرة القدم وفريق بلاد النهر الوطني، بعدها قررتُ التوجه للجمهورية كونها تعتني بالأخبار المحلية أكثر من غيرها وهذا فعلا ما يهمني اليوم.
- لكلٍّ منَّا توجهاته القرائية، وها أنا اكتشف بأنَّ الأستاذ ماركيز يفضل الأخبار المحلية قبل غيرها – كتب هذه العبارة على مذكرة أخرجها من جيب سترته – هذا فعلا أمر مهم.
- عذرا يا سيِّد....
- برونيلو، اسمي برونيلو يا أستاذ ماركيز
- أوكي سيِّد برونيلو، لي شرف عظيم للقائكَ اليوم، واعذرني إن نسيتُ الاسم أحيانا، فأنا لا أتذكَّر معظم الأسماء التي ألتقيها في حياتي، عدى عن التواريخ المختلفة، لهذا أعتذر بشدَّة، لكن هلا أطلعتني عن سبب هذا اللقاء بيننا؟
- لا عليك أستاذ ماركيز كلُّنا ننسى ها، ها، ها – ضحكتُه أزعجت ماركيز لكنَّه بذل جهدا حتى لا يغضب – أنا أحاول منذ زمن أن أعرفكَ عن قرب، خاصة وأنني مِن قرائكَ الأوفياء، مقالاتك الأسبوعية تلهمني، إن لم يكن لديكَ مانع بالطبع؟
- حسنا، طبعا ليس لدي أيُّ مانع شخصي، لكنَّ الوقت هو الذي يمنعني حتى عن أحبائي ورفقائي فضلا عن أصدقائي هذه الأيام – قالها ماركيز وهو يعدِّلُ مِن جلسته ويشرب القليل مِن كوبه بهدوء – إذن سنقابل بعضنا كثيرا على ما يبدو يا سيِّد برونيلو؟
- هذا مِن حسن حظي ربما، ها، ها، ها – تمنى ماركيز لو ينسى هذا المتطفل أمر هذا النوع من القهقهة في حضوره على الأقل، فهو يثير اشمئزازه بها.
نظر ماركيز إلى ساعته، فتغيَّرت ملامح وجهه، مما جعل برونيلو يفهم بأنَّ وقت ذهاب ماركيز قد حان.
- إنه وقت عملكَ كما اعتقد يا أستاذ ماركيز، آسف إن كنتُ قد أفسدتُ عليْكَ خلوَتَك.
- لا إطلاقا، لا تزال هناك بعض الدقائق في يدي، كما أنني مبتهجٌ بهذا اللقاء، لكن يا ترى ما الذي تريد معرفته؟
- هي أمور عظيمة في نظر برونيلو، بديهية في نظر فيلسوف غريب مِثل الأستاذ ماركيز.
- إذن لنبدأ، لا يزال أمامي دقيقتيْن.
- يا أستاذ ماركيز، ما هي الحياة (La vie)؟ وهل تستحق كلَّ ما نعانيه قربانا لنعيشها؟
أعاد ماركيز التحديق بساعته فأدركَ بأنَّ وقت استراحته قد انتهى، رفع رأسه محدِّقًا بجدية في وجه برونيلو، وقبل أن ينطق سبقه برونيلو قائلا: لا عليك، يمكنكَ الذهاب، أنا مَن سيدفع الحساب، نلتقي في يوم قريب للغاية إن شاء الله.
- نعم يا سيِد برونيلو، لكنَّه سؤال مهم للغاية، أشكركَ جزيل الشكر على طرحه، نعم! لنا لقاء آخر.
بعدها حمل ماركيز نفسه، جريدته ومحفظته البنية اللون، صافح برونيلو، ثمَّ مسح بيده اليمنى لحيته، قبل أن يخرج مِن المقهى وكلُّه شوق للعودة.