فُتحت البوابة الخشبية المؤدية لتلك القاعة الواسعة، فدخل ماركيز سائرا بهدوء شديد الاحترام باتجاه الحاضرين، سلَّم عليهم واحدا واحدا محيا كلَّ واحدٍ منهم مِن بعيد، طبعا بسبب إجراءات الوقاية مِن الفيروس التاجي، ثمَّ اتخذ مكانا في الزاوية محاولا اتخاذ موقع له في الواجهة، حتى يطلَّ بابتسامته التائهة على الجميع.
ماركيز اليوم في احدى قاعات نادي "التدخين" الذي اضمَّ إليه منذ أكثر مِن شهر، بعدما عانى مِن الكثير مِن المضايقات عندما صار مدخنا شرها، فعلى أرض القراصنة يُعتبَر المدخِّنُ إنسانا مزعجا وكريها، بسبب روائح التبغ الذي تنبعث من ملابسه، خاصة إن كان فقيرا، لأنَّ الأغنياء حتى ولو كانت روائحهم تشبه روائح المجاري يبقون ذوو مكانات مهمة في حياة القراصنة.
بلاد القراصنة تحارب المدخنين فقط كماركيز، بعد مرحلة فترة القرن العشرين، عندما كان التدخين فعلا مِن مظاهر الرفاهية وَاليُسر، حينما كان حلالا، تُعرض منتجاته وعلبه على صفحات الجرائد والمجلاَّت، ها قد صار التدخين اليوم لأمثال ماركيز جريمة يُعاقب عليها عُرفُ القراصنة الخرف ضمنيا، وهذا ما جعل ماركيز يصبح عضوا نشطا مِن أعضاء نادي التدخين، حتى يتمكَّن مِن التدخين دون ازعاج، فالمدخِّن في النهاية إنسان وله حقوق كباقي أبناء الإنسانية!
أشعل ماركيز غليونه الفاخر، وراح يتلذذ بما يدخل رئتيْه، وبينما هو في حالة نشوة لا يعرفها سوى المدخِّن بشراهة، فاجأه أحد زملائه بطرح سؤال مباغت عليه، كان حول مظهره الذي يغيِّره ماركيز كما يغيِّر القراصنة كلماتهم الكاذبة؛ يا أستاذ ماركيز ما قصتُكَ مع تغييركَ لمظهركَ في كلِّ مرَّةٍ، بشكل كامل تقريبا، ودون سابق إنذار؟
لم يعِر الأستاذ ماركيز السائل أيَّ اعتبار، قبل أن يُنهي ما بين يديْه مِن تبغ، بعدها وضع غليونه على طاولة زجاجية موضوعة أمامه، تأمَّل الغرفة مِن حوله، فهاله صمت الحاضرين، كانت الأعناق مصوبة كلَّها نحوه، منتظرة جواب الأستاذ ماركيز، متوقِّعة في الوقت نفسه، صاعقة فكرية مِن الصواعق التي اعتاد الأستاذ ماركيز تفجيرها فوق أذهانهم؛ وعلى غير المُتوقَّع قال الأستاذ ماركيز: بعيدا عن كون مظهري أمام الناس مسألة شخصية، إلاَّ أنَّ سؤالَكَ مهمٌّ أيُّها الزميل الأنيق.
أطيل شعر رأسي أو ذقني، ألبس بذلة من طقم ذا ثلاثة قطع أم لباسا رياضيا فضفاضا، ألبس تبانا أو جلابة، لا أفهم مشكلة القراصنة في هذا الأمر، سوى أنَّهُم يرغبون بالقيام بما أقوم به، لكنَّهُم لا يملكون الجرأة لفعل هذا، هُم ليس لديْهم مشكلة مع مظهري، بل لهُم مشاكل عصيبة مَع الجرأة (l'audace) في حدِّ ذاتها.
كلُّ فتاة مِن بنات القراصنة ترغب بأن تلبس تنورة قصيرة، تضع عطرا فاخرا، تدخِّن الشيشة بعد الظهيرة، قبل أن تستقلَّ سيارة جميلة لتقودها نحو مكان عمل حبيبها، فتأخذه باتجاه مطعم أنيق، تمضي معه ليلة في عسل الشبق حتى الصباح؛ لكنَّ الفتاة التي تعيش هذا، تعتبرها باقي فتيات القراصنة، تعيسة فاجرة وبعيدة عن منطق التديُّن، ليرموها بكلِّ الأوصاف، مِن أهمها اعتبارها عاهرة أو مومس، جريمتها أنَّها عاشت ما يحلمن به هنَّ في أعماقهنَّ، لكنهنَّ لا يملكن الجرأة لفعل ذلك، هذا فيما يخص الفتيات، بينما ذكور القراصنة، يكرهون هذا النوع من الفتيات علنا، ويقومون بسبِّهنَّ جهرا، بينما في أعماقهم، هُم يعشقون هذا النوع "الشقيّ" من الفتيات، هؤلاء المتحررات اللائي يسبحن بعيدا عن منطق القراصنة.
أعاد اشعال الأستاذ ماركيز لغليونه من جديد، بعدما قام بإعادة تعبئته ثانية بالتبغ الراقي، أخذ نَفَسًا عميقا، قبل أن يلتفتَ نحو زميله قائلا: كُن جريئا بما يكفي، لتغيير مظهرك وقتما تشاء، وكيفما تشاء، لا تضيِّع وقتكَ الثمين في مراقبتي أيُّها الأحمق الغالي.