صامتٌ للغاية، جلس ماركيز يشاهد مَن حوله، يحاول استقراء ما يدور في محيطه، وهو يدخِّنُ بنهم منقطع النظير، ليفهم في الأخير بأنَّ مَن يتجمهرون في فَلَكِه مِن القراصنة، تسيِّرُهُم عقلية القَطِيع، يسيرون خلف فكرة مشوَّهة، هي واحدة، لكنَّها غير قابلة للاستبدال في تخمينه اليائس/اليابس، وهذا ما يجعلُ ماركيز محلَّ أنظار هؤلاء التابعين مِن العبيد، هؤلاء الفقراء حتى مِن الخيال وإنتاج الأوهام.

مِن الصَّعب أن تسير وفق أوهامكَ، والأصعب أن تسير بلا حتى أيَّة مراجعة تُذكَر خلف أوهام غيرك، لكنَّ واقع ماركيز يشرح هذه الوقائع بشكل حماسي رهيب، هي فترة مظلمة وحالكة الظلمة مِن تاريخ القراصنة المبتور، المتروك لنهش ضباعِ الأسطر والمعاني بشكل مرعب للغاية.

مفهوم أو يمكن أن يفهم ماركيز عند استغلالها لطاقاته حتى يتفهَّم هرولة القراصنة نحو "الناجح" أو الذي يبدو لهم كذلك، لكن؛ لا يفهم الأستاذ ماركيز هذا الانصياع الشامل والطوعي لإرادات جماعية بأكملها لمنطق يتيم، يتخذونه شمعة لا تحترق ولا تنطفئ وسط الظلمات، هذا ما يجعل الضمير يركض كالمرهوب بين أروقة العقول وناصياتها التي ظلت مفعمة بالأسئلة دائما.

كيف لسمعة الأستاذ ماركيز أن تسبقه نحو أناس يعشقون البروتوكولات الجافة والمضحكة؟ كيف لهم أن يقيموا ردود أفعالهم وفق تناغم أفكاره مِن حيث لا يدرون؟ كيف لهذا الأستاذ الذي يعمل ليل نهار على صياغة أفكاره الخاصة، أن يكون على رأس القطيع (le troupeau) يوجهه حتى بغيابه؟

بما أنَّ القراصنة على أرض "الجنَّة ما وراء البحر" قد اشتدَّ عودهم في بيئة خنوع تام، هُم لا يستطيعون العَيْشَ بلا راعٍ يحمي حماهم بالفكرة التي تولد مِن عقله الذي يعمل بلا توقُّف، الأمر يظهر بوضوحٍ عندما يحاول أحد الجبناء تقليده، فالعُملات المقلدة غالبا ما تظهر على حقيقتها عند ارتطامها بالأوضاع الجادة، بينما نماذج الرعاة كالأستاذ ماركيز هُم كالذهب النفيس، يزدادون صفاء باشتداد اللهيب حولهم.

يبحث القراصنة عن محاولة تزييف الواقع والوقائع، لسبب بسيط، لأنَّهُم يدركون بأنَّ حيواتهم مزيَّفة، لهذا هُم يبحثون عن الفكرة الواقعية والحقَّة، حتى يتمسكون بها، وهذه الأفكار لا ينتجها سوى الرعاة، وشتان بين الرعاع والرعاة! فرق كبير بين مَن يقود الحياة ومَن تقوده الحياة، فالأمر لا يخرج عن دائرة صراع الارادات.

واضحٌ أنَّ حياة العبودية الفكرية/الثقافية أكثر مِن سهلة، ومفهوم أن يلهث العبيد خلف سادتهم مِن النبلاء على غرار ماركيز وزملائه، لكنَّ الأمر يتجاوز كلا الطرفيْن في الكثير مِن المحطات، فالعبيد يؤذون حتى رعاتهم عندما يشعرون بأنَّ هؤلاء النبلاء يحاولون إهداءهم واقعا واقعيا وصحيا.

يجد ماركيز نفسه بين هذه المتاهات في جلِّ أيَّامه، يجد نفسه مضطرا للتعامل مع العبيد مِن القراصنة، ويصاب بذلك الشعور المقرف الذي يدفعه للشفقة على هذا القطيع مِن القراصنة، لا لشيء سوى أنَّه يعلم قبل غيره، بأنَّ القطعان مصيرها الفناء مهما كانت أعمارها طويلة.

لكنَّ ماركيز يجيد التعامل مع هؤلاء المساكين، هؤلاء الذين لا يستطيعون التنفُّسَ بعيدا عن منطق القطيع، أو بعيدا عن زحمة أعضائه، لأنَّهم ولدوا بين ذلك الزحام، وعاشوا طيلة أيَّامهم يعملون على البقاء ضمن هذا النطاق، وكلَّما ضاق عليهم أحبوه أكثر، وهذا بالذات ما يجعل الأستاذ ماركيز العدوَّ الأوَّل لهذا القطيع من عبيد القراصنة، فالسادة مِن الرعاة لا مكان لهُم بين أفراد القطيع حتى ولو أرادوا ذلك.

يأمَل ماركيز في يوم تذوب فيه هذه العقلية – عقلية القطيع – لتزول وتنتهي، لأنَّه يدرك تماما الإدراك، بأنَّ قومه من عبيد القراصنة سيتعرضون للتلاشي، ويعزُّ عليه أن يستيقظ يوما ما فلا يجد قرصانا واحدا على هذه الأرض، ففي النهاية هؤلاء القراصنة هُم قومه، وأخلاق النبلاء التي تسري بداخل عروقه، تدفعه لمحاولة إنقاذهم من أنفسهم، حتى ولو كان الثمن إرادته في الحياة.