شَرَعَ ماركيز في تدخين غليونه الشهير، بعدها أشاح ببصره نحو المرآة ليتذكَّر نفسه، تلك التي ضاعت بين زحمة الصراعات اليومية مع الحياة وبها، فراح يقع أمام الأصداف الذهنية طريح العلل، لكنَّه قرر بعد ذلك أن يطرق ذاته مِن زاوية أخرى، راجيا أن يجد بعض الراحة بين دفات ذكرياته ومواقفه، تلك التي جعلته يكون على ما هو عليه اليوم: محارب على الجبهة الثقافية، فقام بجولة سريعة بين أفكاره، مستعملا طريقة "النقد الذاتي" (l'autocritique)، لعلَّه يجيب عن سؤال: مَن أنا؟
أنا الذي يكتب بنهم غير مبالٍ بآراء الآخرين، فأجعلهم يتحسسون مني حدَّ الهوس، أدفعهم مِن حيث لا يدركون إلى قراءة كلماتي بشكل مرتعش، لأنَّ القراصنة يخافون مِن الكلمة المكتوبة حدَّ الرعب، وهذا ما يجعلهم يحملون الكثير من الكره في قلوبهم حين يكونون بالقرب مني، بعدها يبحثون عن سبب ولو كانت تافه أو أتفه من التفاهة للفرار بجلودهم عن طريقي، ولا أخفيكم، فأنا أجد متعة لا نظير لها عندما يكرهون ما أكتبه عنهم، فأنا أتبنى ما قاله لاعب كرة القدم البرتغالي رونالدو: أحب الجماهير عندما تكرهني!
البعض يرى في نفسي متكبرا، وهذا تصوُّرٌ مقبول للغاية، لكنه ليس دقيقا فأنا أحمل طفلا مزهرا بداخلي، لكنني فخور بأنني متكبِّرٌ على مَن يرفض الكلمة ويحارب أهلها وناسها بكافة قواه، وبالمقابل، أنا أرى بأنَّني لا أحمل في حياتي أيَّ امتياز يجعلني أتكبَّر به على الآخرين، فأنا مِن أبناء الشعب، بل أحد مربي أبناءَه، لستُ مِن أصحاب الغنى الفاحش، ولستُ عبقريا، أنا إنسان بسيط، لكنَّ عيبي أنَّني أعيش بين قراصنة يكرهون "الإنسان" ويخافون "البساطة" لأنها تعرِّي وضعهم البائس.
لديَّ مشكلة في التواصل مع غيري أيضا، وهذه المشكلة هي التي اعتبرها أمَّ المصائب، ففي كثير من الأحيان، لغتي الأكاديمية تختلف عن اللسان العامي أو تلك الفصحى المعطوبة التي تستعملها "النخبة المعتوهة" من القراصنة، وهذا ما يضعف وصول المعاني التي أنسجها عبر الكلمات بشكل واضح، وعبر هذا تُفتَح التأويلات على مصراعيْها، فأكون غالبا ضحية لسوء فهم مصدره ضعف اللغة/اللهجة التي يتم تداولها وعجزها على استيعاب المفاهيم التي أتداولها على صفحات مقالاتي أو كتبي.
لستُ الوحيد الذي يلفظه أبناء قومه، فقد كان محمد عليه الصلاة السلام غريبا بين قريش قبل الدعوة وعدوا لها بعدما دعاهم إلى سواء السبيل، لقد باع باراك أوباما الأيس كريم قبل أن يصبح أول رئيس أسود للبيت الأبيض، لقد باع نجيب محفوظ كتبه حتى يطعم نفسه قبل أن يفوز بجائزة نوبل، لقد بات هتلر أياما تحت جسور فيينا وعلى أرصفة بافاريا قبل أن يصنع قوة رهيبة أخضعت أوربا بأكملها، لقد كان عنترة بن شداد عَبْدًا قبل أن يجعل الجزيرة العربية ترتعد بمجرد سماع اسمه، لقد كان الكثير من العظماء بلا أسماء قبل أن تلمع أسماؤهم كالنجوم في سماء التاريخ والذاكرة، لهذا ماركيز يعلم بأنَّه لا يوجد نبي في قومه، وخاصة إن كان هؤلاء القوم قراصنة مِن أبشع ما انجبت البشرية عبر تاريخها الطويل.
طبيعيٌّ للغاية أن يتعرَّض ماركيز للانتقاد، للنقد للهجوم وللتجريح بطرائق نتنة، لقد اختار طريقه، سواء اختلفتَ معه أو اتفقتَ مع ما يراه، فهو كاتِب وفيلسوف في نهاية المطاف، عصاميُّ التكوين، وبأدوات ذاتية بشكل كامل، لهذا فهو يرى نفسه كالشجرة المثمرة التي يرميها الناس بالطوب، وهو فخور بهذا.
قد يتعب ماركيز فيكتب مقالا هنا، أو رواية هناك، قد يتحدث عن ظاهرة اجتماعية هنا أو ظاهرة ثقافية هناك، لكنه لن يبدِّل جلده الثقافي إرضاء لحفنة من القراصنة، مَثَلهم في الحياة كمَثَل الذي يركب سيارة "404" باشي، متجه إلى المسلخ وهو يصيح، أين لا ينفع الصياح.
عاد ماركيز إلى رشده بعدما قد سمح لذهنه بالغوص في عمقه، ليجد بأنَّ غرفته قد امتلأت بالدخان، سار بعدها باحثا عن منفذ للهواء، ففتح النافذة وأفسح للتيار البارد بالدخول إلى ذلك المكان المغلق، كما أفسح قبل عَقْدْ من الزمن المجال لكل الأفكار بكل اللغات بدخول عقله الذي لا يعرف التوقف.