يكشف الفرد عن نواياه في تفاصيل كلماته، فكلمة واحدة كافية بتنصيب الضمير أميرا، ليكشف ما كان مخبئا منذ سنوات طويلة، وهنا تسقط الأصنام، تتصدَّعُ الأوهام، تظهر الحقائق، وتُكشَفُ المكامن بوضوح لا يخفى على المعنيين بالأمر، هي طريقة سير الطبيعة، وصرامة تطبيق الكون لقوانينه على الكائنات باختلاف مبانيها ومعانيها، هي قدرة خلاَّقة تجعل الإنسان يصل إلى الأعماق، بلا تكلُّفٍ ولا تضييق.
اكتشف ماركيز بأنَّ القدرة على اكتشاف الخفايا هي طبيعية محضة، هناك عدَّادٌ روحي خفيّ يدفع الفرد الإنساني إلى التمييز بين ما هو قابل للتوضيح، وما هو قادر على تعرية الظلام، هذا الأمر جعله ينتبه لتلك البوصلة العريقة التي تمحِّصُ التصرفات، لتكشف عن الوجوه الطبيعية للكائنات، لأنَّ هذه الأخيرة؛ تميل إلى جعل الحياة مزيَّفة، غير واضحة أو غير قابلة للفهم.
مسألة التزييف هذه مِن مصدر واحد، ذلك الذي يرى الأستاذ ماركيز بأنَّه جانب مِن الغرور الذي تقع فيه الذات مضطرة، وهو ما يجعل الإنسان غير مُدركٍ للسيرورة النهائية للمسعى العريق الذي يجتازه الهوى بلا ضوابط، ففي النهاية! الأوهام سرعان ما تذوب، وتبقى المصادر جليَّة أمام العقل.
لقد وجد الأستاذ ماركيز في كِتاب "جيفري بفيفر" الذي جاء تحت عنوان "القوة" فكرة مهمَّة، وهي تتعلَّق بوجه البهلوان، تلك التي وردت في جزء من الكِتاب تحت عنوان "الأداء لا يصنع النجاح"، وهو فعلا كذلك؛ فالبهلوان يعمل على تحسين أدائه أمام الجمهور، وهو يعلم في قرارة نفسه بأنَّه مزيَّفٌ مِن الداخل، لا يحمل مِن الحقائق عن ذاته سوى أنَّها في العَلَنِ ليست حقيقية، ولا أهمية لما تفعله، رغم أنَّه يمضي أيَّامًا محاولا إقناع داخله بالعكس.
القرصان عندما يعتمِد الثقافة الضحلة (la sale culture) مرجعا أساسيا لحياته، تجده يدور في حلقة البهلوان هذه، عليه أن يرسُم وجها مناسبا للناس مِن حوله، وأن يقوم بتغليف كافة الجوانب التي تجعله بلا فائدة في حياة القراصنة بالكثير مِن الأكاذيب، في سعيٍ واضح لإرضاء مَن لا يرضى، فيعيش في كَبَدٍ رهيب حتى نهايته، بل إنَّ حركاته البهلوانية التي لا تقنع أحد، حتى نفسه هو بالذات، تصبحُ عبئا صارخا لا مجال لحمله على الأقل لمدَّةٍ طويلة.
يرفض ماركيز أن يصبح بهلوانا بهذا المعنى، بل هو يريد مِن نفسه أن تسير على سكَّة الوضوح خاصة مع المعتقدات والرؤى التي تشكِّل قناعاته الخاصة، تلك التي اجتهد في حملها وصقلها فترة المراهقة وبعضا مِن فترة النضج، ليجد نفسه في نهاية المطاف أمام مفترق طرق، ولزاما عليه أن يختار.
المفيد في حياة القراصنة هو تعطيلهم لعقولهم، وغرورهم الفج والسَّمج، هنا تكمن نقاط ضعفهم، فهُم يفسحون المجال دون عناء لعقول كعقل ماركيز لينشغل بأمهر الطرائق، قصد وضع الحدّ بين ما هو عميق وما هو غريق.
على ماركيز أن يختار إمَّا أن يكون بهلوانا بلباس قرصان على أرض القراصنة، أو يرمي كلَّ هذا خلف ظهره ويمضي بعيدا، يبدأ فيها مرحلة جديدة، تحمل سؤال وجوده بشكل أكثر جديَّة، بل إنَّ الاختيار الثاني يحمل مِن المخاطر اليومية أكثر بكثير من الاختيار الأوَّل، وهُما لو وضعناهما في الميزان – ميزان الخسائر – فإنَّنا حتما سنلاحظ بأنَّ البقاء سيجعل ماركيز يخسر نفسه إرضاء للبهلوان الذي سيصنعه، وإن اختار الرحيل فإنَّه سيرتاح معنويا لكنَّه سيقابل المجهول الذي ينتظره بأسلحة بدائية، نسبة النجاح في الفوز بهذه المواجهة ضئيلة للغاية؛ لكنّ الوقت ينفذ وينسلُّ بين أصابع ماركيز كما تنسلُّ حبَّات الرَّمل، وعليه فإنَّ إيمانه في قدرته على اجتياز كلَّ مرحلة نحو مرحلة أفضل لا يزال بمثابة ذلك الوقود الذي لا ينفذ ولا يتوقَّف أبدا عند حاجة ماركيز إليه.