"ما يعجبني في إبراهيم أنَّه متصالح مع نفسه، مدرك للمأساة التي هو بصدد مصارعتها كلَّ يوم" (مزوار محمد سعيد، قاتلي يتدرَّب في شيكاغو، ط: 01، دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر، ص: 135).

هذه الكلمات وردت في "قاتلي يتدرَّب في شيكاغو" قبل سنوات، تحمل بين ثناياها رجاء ملحا، لربما يتحقق حلم ماركيز، فيرى عالِم نفس يولد بقيم تحمل أرض القراصنة نحو الإنسانية، لكنَّ الأيَّام أثبتت، بأنَّ جامعة القراصنة، لا تلد سوى الشواذ والعاهرات، سوى المعقدين والنرجسيين، وهذا ما جعل ماركيز يتراجع قليلا، ليفهم كيف صار "إبراهيم" مثالا جديدا لخيبة ماركيز المتجددة.

تعرَّف ماركيز على إبراهيم في أروقة الجامعة، وكان ماركيز يومها متفائلا للغاية بهذا الشاب الذي رغم ظروفه الصعبة، كان يحاول ويجتهد للوصول إلى مرتبة علمية مشرِّفة، لكنَّ دوامة جامعة القراصنة كان لها رأي آخر، لقد دفعت إبراهيم إلى الانتحار المعرفي كقربان لغرائزه البهيمية التي لا أساس لها في قواميس الأفكار، صار كغيره مِن طراطير جامعة القراصنة، مجرَّد شبح لإنسان، كان يوما ما حاملا لرسالة مهمة في الحياة.

أثناء نقاش بسيط قام به ماركيز مع إبراهيم أثناء رحلته الأخيرة، لمس ماركيز في نفسية إبراهيم نوعا من الغطرسة الفارغة والمنفوخة كبالون سريع الانفجار، لقد اكتشف ماركيز موت إبراهيم "الإنسان"، ليحلَّ مكانه إبراهيم القرصان؛ كان النقاش حول أحد أعمدة علوم النفس، ألا وهو سيغموند فرويد، وحينها اكتشف ماركيز التام لإبراهيم بهذا الركن الشامخ في علم النفس، حتى أنَّ الطرطور إبراهيم لم يعرف أيَّ عصر ينتمي إليه فرويد، وهذا ما أثار دهشة ماركيز وحسرته في الوقت نفسه.

اكتشف ماركيز أيضا بأنَّ إبراهيم جاهل تماما جهلا مطبقا بقواعد اللغة العربية وفنونها، جاهل باللسان الفرنسي وأناقته، أمَّا اللغة الإنجليزية التي تعتبر لسان حال القرن الواحد والعشرين فإبراهيم ليس جاهلا بها فحسب، بل هو أعمى بين دروبها، ينتظر إحدى عاهرات الشوارع لإرشاده بين أرصفتها التي لا تقبل بأمثاله، لأنَّها أشرف بكثير مِن أن يدنِّسها قرصان نجس نابع من أرض القراصنة وأحراشها.

في أيَّام خلت، كان ماركيز ينتظر من الطرطور إبراهيم أن يتقن الإيطالية، وقد وعده هذا الأخير على الملأ يومها أن يجيدها خلال سنة، لكنَّ الأيَّام أثبتت بأنَّ العربية، اللغة الأم لا يجيدها هذا الطرطور الخرف، فكيف بألسنة الغير؟

لقد سحقت جامعة القراصنة إبراهيم سحقا تاما، أعطته جرعة من الغرور بأنَّه صار في مرتبة الصفوة أو النخبة، لكنه نسي ربما بأنَّ هذه الجامعة غير مصنفة عالميا، وقد تناسى بأنَّ المقعد الأكاديمي الذي يجلس عليه اليوم قد اشتراه برشوة نعلم تفاصيلها والوسيط الذي لعب فيها دورا خسيسا، هذا البرغوث الذي يشغل منصب أستاذ جامعي بإحدى الولايات الساحلية، ماركيز ليس نائما على أذنيْه يا طرطور إبراهيم!

لقد جعلت جامعة القراصنة إبراهيم يرى الجنة عبر نوافذها لكنها منعته تماما من دخولها، فإبراهيم عاطل عن العمل، يعيش عالة على المجتمع، غير قادر على إشباع غرائزه الحيوانية قبل العقلية، ويحاول الظهور بمظهر الشخص الخارق، وهنا مكمن المشاكل كلها؛ لأنَّ هناك نبلاء مِن أمثال ماركيز مهمتهم في الحياة هو الانتصار للفكر والتفكير، وكشف الزائف من الأفكار التي يطلقها مشعوذون كالطرطور إبراهيم.

أنت تثير شفقة ماركيز يا إبراهيم، لأنَّ الحقد الذي لطالما حاولت أن تخفيه قد ظهر أخيرا، حتى إنهاؤك للعلاقة التي جمعتك صدفة بأحد الفلاسفة الحقيقيين مثل ماركيز قد أنهيتها بطريقة مثيرة للشفقة، لأنَّك انتظرتَ حتى حاول ماركيز الاتصال بك، لتقطع الخط في وجهه ثم تبعث له بتلك الرسالة البائسة كحظكَ أيها الأحمق.

لقد أوضحتَ يا طرطور إبراهيم أنَّك صرتَ نذلا بكافة المعايير، لقد نجحت جامعة القراصنة في تحويلكَ من شاب متصالح مع نفسه إلى مسخ يصارع ذاته والآخرين أيضا، فهذا الماركيز الذي تقطع علاقتكَ به، هو مَن أدخلكَ عالَم الكتابة، لكنَّ المتنبي كان صادقا تماما حين قال: إذا أنتَ أكرمتَ اللئيم تمرَّدا.

أنتَ لستَ الشاب الطموح الأوَّل الذي تسحقه جامعة القراصنة ولن تكون الأخير على ما يبدو، لكنكَ خيبة جديدة أضيفت إلى قائمة خيبات ماركيز، لقد حاول هذا الفيلسوف الشريف أن يصنع منكَ يا إبراهيم مفكرا وعالِم نفس، لكنَّكَ اخترتَ أن تكون نذلا وجاهل نفس، فهنيئا لكَ اختياركَ الجديد.

لقد أوردَ الكاتب الأميركي مارك مانسون في كتابه الشهير تحت عنوان: "فن اللامبالاة" مَثَلاً يردده أهل تكساس يقول: "أصغر الكلاب أشدها نباحا" وماركيز يعتقدُ أنَّ هذه العبارة تنطبق على الطرطور إبراهيم حرفيا، إضافة إلى هذا تنطبق عليه معاني الآية الكريمة رقم 05 من سورة الجمعة والتي تقول:

The likeness of those who were entrusted with the (obligation of the) Taurat (Torah) (i.e. to obey its commandments and to practise its legal laws), but who subsequently failed in those (obligations), is as the likeness of a donkey who carries huge burdens of books (but understands nothing from them). How bad is the example (or the likeness) of people who deny the Ayat (proofs, evidences, verses, signs, revelations, etc.) of Allah. And Allah guides not the people who are Zalimun (polytheists, wrong-doers, disbelievers, etc.).

سيبقى ماركيز وفيا للفِكرة والعقل، يقارع الحُجة بالحُجة، يناقش كلَّ الناس على اختلاف معتقداتهم ولغاتهم، وهذا ما جعله يشعر بالشفقة على الطرطور إبراهيم، لكنَّ عزاء ماركيز أنَّه حاول إنقاذ إبراهيم من براثين القراصنة، وهذا ما يجعل ماركيز يرتقي إلى أعلى مراتب النبلاء، هي طبيعة الأشياء، النُّبلاء والجبناء لا يعيشون معا طويلا، لهذا كان لزوما وضرورة افتراق النبيل ماركيز عن الجبان إبراهيم.