شربَ القراصنة مِن كأس العبودية الأمر الكثير، حتى صاروا خاضعين خانعين كليا لكافة الرياح الثقافية الأجنبية ونسائمها، بل صاروا يورِّثون هذا الذلَّ الممتع بالنسبة لهم، وراحوا يتفنَّنون في الانبطاح والمذلة، بأن تبنُّوا كافة الصيغ التي لا يمكن أن تخطر على بال غير القرصان، فراح بعضهم يخضع طواعية لهذا وذاك، وعمل البعض المتبقي على الدفاع عن أسيادهم وجلاَّديهم بشكل شكَّل عَلاَمة فارقة في تاريخ العبودية منذ فجر الحياة.

لَمَس ماركيز هذه الحقائق أثناء رحلته الأخيرة، خاصة عندما اقترح عليه – سائق – الرحلة نموذجا لمظهر أحد أبطال هوليود، حتى يقتدي به ماركيز في مظهره الخارجي؛ هذا الفعل جعل ماركيز يعيد الحسابات كلِّها، إذ أنَّ حسن نية ذلك السائق وعفويته تبدوان عاديان للغاية، لكن في نظر ماركيز هنا مكمن الكارثة وفي هذه النقطة تحديدا تظهر عبودية هذا السائق بشكل لا يخلوا مِن الشَّك.

مفهوم أن تختلف القِيَم (Les valeurs) مِن مجتمع لآخر، وعادي للغاية عندما تختلف هذه القيم مِن شخص إلى آخر، لكن ما هو غير عادي ولا هو مفهوم أيضا، عندما يستسلم الإنسان بكامل إرادته إلى تفاهات الآخرين، فيعطيها أهمية لم تجدها تلك التفاهات حتى عند أصحابها الأصليين؛ فعلا! الأمر قد تخطى كافة الحدود والمعايير.

ما لا يدركه سائقنا المحتَرَم، بأنَّ ماركيز يعتبر نفسه شخصا متفرِّدًا، يصنع النموذج الذي يراه مناسبا لحياته، يعيش ما يرغب فيه دون أفكار مسبقة، وحتى ولو سقط في المعاناة بسبب ما هو راغب في القيام به، فإنَّنا نجد الأستاذ ماركيز يحارب بكلِّ قواه، مِن أجل الثبات على ما هو مقتنع به.

لا يمكن للقرصان – مع الاحترام للسائق – أن يفهم هذا النوع مِن النبلاء الذين ينتمي إليهم ماركيز، لأنَّ مَن اعتاد على الخضوع والركوع لغيره، لا يستطيع أن يفهم ما معنى أن يعيش الإنسان شامخا، رافعا رأسه عاليا، ومَن تنازل عن إرادته لمَن لا يراه موجودا على الخريطة، لا يمكنه أن يتفهَّم نمط حياة الأحرار كماركيز، هؤلاء الذين يحملون إرادات تلين أمامها كافة العقبات وتركع أمامها الجبال.

طبيعيٌّ جدًّا للقراصنة بل يعتبروه شرفا عندما يقلِّدون هذا الممثل الشهير أو ذاك، يعتبرون قمَّة "التقدُّم" والقوَّة عندما يلبسون كما يلبس لاعبوا كرة القدم، المغنيين أو رجال الأعمال، فالقرصان بفطرته مسلوب الإرادة، وهذا ما يجعل ذله نمطا مِن أنماط الحياة، وقد ساعدت الأعراف البالية والتقاليد المثقوبة على تعزيز هذا الخضوع حتى يبقى القراصنة في أسفل التصنيف عندما تجتمع الأمم وتتبارز على ساحة الثقافات والأفكار.

عندما تصادف في حياتكَ عزيزي القارئ قرصانا لأوَّل مَرَّة في حياتكَ، فإنَّ أوَّل عملية ذهنية تقع في خاطره، هو محاولاته المستميتة لتصنيفك ضمن إحدى الخانات الجاهزة في عقليته اليابسة/اليائسة/البائسة، بعدها يعمل على محاولة إظهار ما ليس فيه، حتى يظهر أمامك بمظهر يثير إعجابكَ أو إعجازكَ، هو لا يفهم ما معنى أن يعمل الإنسان على تشكيل شخصيته ذاتيا، وهو يعتقد أيضا أنَّ كافة البشر مثله، عبارة عن عبيد، لهذا هو وعبر عقلية العبْد، هو يحاول اكتشاف النموذج (l'exemple) الذي يفترض أنَّك تعبده.

ما أصعب أن يعيش ماركيز بعقل حرّ يتخطى كافة المحظورات والمعقولات على أرض القراصنة التي لا تعترف سوى بالعبيد! بالإضافة إلى شعور الشَّفقة الذي يستولي على الأستاذ ماركيز عند مصادفته لـ: هكذا حالات، فإنَّه يجد نفسه مضطرا إلى الشعور بالتقزز مِن هؤلاء القوم.

يعمل ماركيز على البقاء نقيا، بعيدا عن النماذج الجاهزة، فهو مِن القلائل مِن النُّبلاء الذين ينحتون مسارهم في الحياة بأناملهم وأظافرهم لو اضطرَّهم الأمر لذلك، والمظهر الخارجي جزء مِن هذا يا سائقنا المحتَرَم.