يسير الإنسان على ألغام ذكرياته مستشهدا بنور مشاعره، يحاول تفكيكها عند أوَّل فرصة سانحة له، وكثيرا ما يفشل أمام الاستعصاء الرهيب الذي يقف كحاجز أمام كافة أطرافه، يسامر الحياة رغبة منه في الفوز برأفة تغزوا عمقه، لكنَّه غالبا ما يفشل بطريقة درامية سوداء، فيتحطَّمُ فؤاده على صخور الكبرياء، لكن وفي كلِّ الأحوال هو يكمل طريقه بشكل متسلسل ومليء بالمفاجآت.
يأخذ ماركيز رشفة من كوب القهوة الموضوع أمامه، يعيد تدخين السيجارة التي تعيد له بعض النشاط إلى ذكرياته، ينسخ على أذرع الأيام ما تبقى له من صور ذهنية، محاولا بذلك إعادة ترتيب ما يبدو له مبعثرا، وخلال هذا كلِّه يستلقي ضميره على راحة الأمواج الواقعية، أين يغادره العقل تاركا للعواطف الميدان كلَّه، ليتجلَّى بعد انتهائه من رسم الصورة الشاملة ماركيز/الإنسان.
لطالما أهملت أرض القراصنة مشاعر الفرد العميقة، ولطالما تأقلم القراصنة مع هذه الأوضاع، وهي حالة بائسة في تاريخ العواصف الروحية، إذ لا يمكن للفرد أن يصبح صخرة أو قطعة حجر، بلا عواطف واحاسيس، مجرَّدا من شغفه في الحياة وبلا دوافعه التي تصنع منه كائنا روحيا بامتياز.
يقاتل الكثير من النبلاء حتى يحفظوا حيواتهم الروحية سليمة معافاة، قادرة على إقامة البقاء على مساحات الجلاء، تتخذ من كلِّ دمعة ينبوعا للاستمرار ومن كافة الابتسامات أزهارا ورياحين تزيِّنُ بها ربيع الفؤاد وبهجة الأوقات، مستغلة كافة قدرات الفرد على صناعة المتعة والرغبة الروحية الأصيلة، لترتبط الحياة بما يجعل الإنسان في قمَّة قدرته على التفاعل مع مَن يحبهم، بالشَّكل الذي يجعله قادرا على مواصلة سعيه على طريق العشاق والأخيار.
الإنسان ليس آلة، ولن يكون، قد يقترب من الأدوار التي تقوم بها الآلات بإتقان، لكنَّ جانبه الروحي يمنعه من الالتفات إلى ذلك المسار الحي الذي يجرِّده من البقاء ضمن دائرة الانفعال، فالقاعدة بسيطة وواضحة: الحياة مجموعة مطبات، ولذّتها ليست في خلوها من هذه المنعرجات والمطبات، بل في الطريق ذاتها للوصول إلى ما يرمي إليه الفرد الإنساني، وهي قيمة إنسانية خالصة مميِّزَة للفرد دون غيره من الكائنات.
يتذكَّرُ ماركيز حالاته الروحية المتنوعة، مِن غضبٍ، فرحٍ، معاناةٍ ومناجاةٍ، حالات الاندفاع وحالات الانكفاء، حالات الخروج عن المألوف في أرض تعاقب الخارجين عن قوانينها حدَّ الهوس، وبقسوة مفرطة، وحالات الخضوع أو مسايرة ما تلتزم به القطعان على أرض القراصنة، وهي كلُّها تجاذبات تجعل من الإنسان كائنا قابلا للتلاشي أمام ضربات الضغوطات التي لطالما أرهقته، ودفعته إلى الاستسلام، ومع ذلك فإنَّ ماركيز لا يزال يقاتل وهو صامد أمام هذه الرياح الثقافية التي تعمل على انتزاع جذوره من أعماقه، الأمر غاية في الغرابة، فإنسان وحيد كماركيز لا يستطيع هزيمة تاريخ طويل من الظلم والقمع، وهذا مقبول منطقيا، لكنَّ المسائل الوجودية، تلك التي تتعلَّق بالجوانب الروحية، هي كفيلة بتوليد طاقات إيجابية في الداخل الإنساني تدفعه دفعا نحو النجاة!
هزم المسلمون على قلتهم الكفار عندما امتلكوا قوَّة الايمان، وقد هزم الفيتناميون الأمريكان وقبلهم الفرنسيين بقوة ايمانهم أيضا، هزم الانجليز الألمان بإيمانهم، وسيهزم ماركيز القراصنة بتلك القوَّة التي جعلت كلَّ مَن سبقوه ينتصرون، هو الايمان بالحياة، هذا ما يصنع الفرق بين النبلاء والجبناء، وهذا ما يصنع من ماركيز مقاتلا شرسا مِن أجل رفع أهدافه إلى عنان السماء، وهذا ما سيدفعه إلى صناعة ما يريد وقتما يريد وأينما يريد أيضا. الحياة تخضِع لكافة مزاياها للإنسان الذي يسعى بكلِّ ما يستطيع نحو أهدافه، وهذه هي الميزة الصلبة التي تجعل ماركيز إنسانا حيًّا روحيا وجسميا.