يجتهدُ الإنسان في صناعة منطقة راحة تكون في ميزان الأمان لديه هي الأعلى والأوفر حظا، وهي مجال يسمح له بالوصول إلى ذاته النقية منفردا، يتفحصها ويعمل على الوقوع ضمن سلطانها ليفهم أجزاءها كلَّها، هي قدرة مهمة وخاصة بالفرد الإنساني دون غيره، هو الوحيد القادر على توفير فرصة مهما كانت ظروفه حتى يستطيع الاستمرار في هذه الحياة.

ينزل ماركيز مِن الحافلة ويتوجه نحو المدرسة حاملا محفظته كعادته، وأثناء مروره بالمركز الاستشفائي يدخل دون تفكير طويل، يسأل الموظف عن "الجرعة الثالثة" من لقاح الفيروس التاجي، فيجيبه بتوفره حالا، ودون تفكير أيضا، يأخذ الأستاذ ماركيز الجرعة الثالثة من اللقاح المصنوع في انجلترا، قبل أن يواصل سيره نحو مقر عمله، أين يقضي يومه بالكامل، وبشكل عادي، لكنَّ تأثيرات ذلك اللقاح القوي من حمى وآلام في مختلف أنحاء الجسم تبقى مصاحبة له وتشتد بعد سقوط الليل، يسقط معها ماركيز في لحظات عجز اضطراريّ، فيطرح على نفسه السؤال التالي: أثناء لحظات الضعف، كيف يتمكَّن ماركيز مِن الاستمرار في الحياة؟

الدموع، الصراخ، الانعزال والوحدة كلُّها وسائل تساعد الإنسان على أخذ وقت مناسب للاستراحة من أعباء الحياة مؤقتا، هي فترة مراجعة، تمنح الفرد الإنساني فرصة للتخلص ولو ظرفيا مما هو فيه، استعدادا للعبور نحو مرحلة جديدة، نحو مساحة أخرى، تكون بمثابة تكملة لما بدأه الإنسان.

هذا ما وقع فيه ماركيز، لقد احتاج تلك المرحلة الانتقالية من أجل أخذ بعض الراحة، صحيح أنَّ عجزه قد بلغ به حدًّا لم يستطع كتابة مقاله الأسبوعي في وقته المحدد كما هو مبرمج منذ سنوات، وتأجيله ليوم كامل، ولكنَّه احتاج أن يكون عاجزا، كان لزوما على ماركيز أن يبقى طريح الفراش بعيدا عن الروتين اليومي، حتى يتمكَّن من رسم الصورة الشاملة للمرحلة التي هو بصدد دخولها من حياته.

لقد بكى ماركيز عجزه، لقد وضع نفسه بين الأنفة والبرهان فانكسر دون تردد، علَّمته تلك اللحظة بأنَّه قابل للعب دور الضحية دون تأخير، وهذا ما بدا قولا وفعلا خلال تلك الليالي التي بدت وكأنَّها لا تنته، هي عملية تذكِّر الإنسان بأنَّ هناك طوارئ لا يمكنه أن يتوقَّعها مهما كان ذكاؤه حادا وعقله نشيطا.

فهم ماركيز محدودية قدراته في مواجهة هذا العالَم الواسع الذي يعمل القراصنة على جعله ضيقا من حوله، فهم بأنَّ العقل المقاوم والمتمرد الذي يحمله قد يتعب، قد يغيب وقد يستقيل من الحياة بسهولة تامة، قد يتركه في لحظة ما من حياته وسط الأمواج الثقافية والاجتماعية دون سابق انذار، وهذا أسوأ الاحتمالات على الاطلاق.

هي حِكمة من الله سبحانه وتعالى أن خلق الإنسان ضعيفا، لكنَّ ماركيز لا يرى في هذا مبررا للكسل والرضى بالواقع البائس الذي يعيشه القراصنة، ذلك الذي يجتهد زعماؤهم في الحفاظ على بؤسه حتى النهاية، ليس مبررا أن يعيش الإنسان بين أمواج الفقر والفاقة، بين براثين الاحتياج والظلم، لهذا هو يعمل على حفر ممر النجاة بنجديْه لو تطلَّب الأمر ذلك.

هناك قوَّة داخلية يلمسها ماركيز في هذه اللحظات بشكل تام، تلك القوَّة التي تدفعه دائما نحو الخروج من كلِّ حفرة روحية يقع فيها، سرعان ما يخرج ماركيز من لحظات عجزه عائدا إلى نشاطه الثقافي والعقلي بشكل أكثر جنونا من ذي قبل، تلك القوة هي التي تجعل الإنسان يستمر في الحياة، خاصة إن علمنا مثلما يعلم ماركيز مسبقا بأنَّ الحياة جميلة جدا، وهي تختلف تماما عن حياة القراصنة، هي جميلة بعيدا عنهم.