المحبَّة سمة أساسية بين بني الإنسان، هي لغة الأرواح الراقية التي تبني وجودها على الأناقة راغبة في تخطي الحواجز نحو الجَمال العاطفي، وهي صفة قريبة من المزايا الرفيعة التي وهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المتَّقين، الذين يعملون على رسم مسار طيِّبٍ لهم في الوجود.

أحبَّ الله عزَّ وجلّ الصالحين/المصلحين مِن عباده وقرّبهم منه، وأحبَّ الإنسان حياته وعمل على عيشها كما يحلو له، فقرَّب مِن ذاته كلَّ ما يشتهيه دون تدبُّر فيما يفعل أو تدبير مسبق لما هو بصدد القيام به، النتيجة هي ما تهمُّه، وهي غايته ومناه، لهذا نجد الفعل الإنساني مرتبطا غالب الوقت بالوجود الخاص لفكر المحبة التي تقود صاحبها حسب هواها.

كلُّ ما يتعلَّق بالمحبَّة وقع دفعة واحدة في عقل ماركيز عندما جلس يقلِّب صفحات كتاب نيتشه "هذا هو الإنسان"، وراح يفكِّر في كيفية إعمال هذا الفيلسوف الجرماني لعقله الرهيب في نسق المحبَّة لديه، ليخطَّ بعدها أبهى المكامن البشرية بيراعٍ يقتات مِن الوعي مباشرة.

أحبَّ الأنبياءُ أقوامهم فعملوا على نجاتهم مِن النار/الجحيم بمحاولتهم إدخالهم الجنات، ولم يملُّوا مِن دعوتهم دائما وأبدا، حتى أنَّها بقيت حسرة في أرواحهم عندما أخذ الله سبحانه وتعالى بعض الأقوام على حين غرَّة بعذابه الأليم نتيجة كفرهم أو إشراكهم؛ وقد تبعهم النُّبلاء شبرا بشبر على هذا الطريق، طريق المحبَّة المزهر.

أحبَّ الآباءُ أبناءهم بشكل جميل ورائع، وفي أحيان كثيرة كان شكلها ضارا وغير نافع، وهو ما أدَّى بالبعض إلى الوقوع بين أنياب العناد ومهبِّ التمرُّد، ليجني الجميع ما زرعوه ضمن قالب التفسير الخاص بهم لهذه النعمة الجليلة، نعمة المحبَّة، مَن فسَّرها باللين كان وجوده مقبولا ومعقولا، ومَن فسَّرها بالمراوغة أو التلفيق، كان وجوده مضطربا بين التناقض والتضاد.

الفعل الإنساني لا يمكن أن نحصره في أبناء الإنسانية، وكثير مِن المظاهر الحيوانية تعيد للأذهان صفات الإنسان، حتَّى ولو قادتها الغريزة وصور الإيمان بالذات، فمنظر قطَّة تحمل صغارها لتنقلهم من مكان إلى مكان، واحدا تلوى الآخر، تجعل القلوب تعتنق كلَّ ما هو لطيف ناعم، وتتبنى العاطفة بين الناس فتلين الأرواح وتتقارب.

المحبَّة لا تكون بين الكائنات الحيَّة، فهناك محبَّة للأماكن والأشياء؛ ماركيز يحبُّ عطوره وكتبه، يحبُّ كلماته ونصوصه، يحبُّ أحذيته البيضاء وقبعاته الملوَّنة، يحبُّ طريقته في العيش، يحبُّ ذاته حدَّ الهيام، وهي محبَّة صافية لا تشوبها شائبة، قائمة على الرغبة والرأفة في أبهى صورها ومعانيها.

محبَّة الأوطان لطالما صنعت الفروق على اختلافها، وكانت رباطا مقدَّسا بين الإنسان والأرض في كافة الأجيال والأزمان، لقد ترجمت الكثير من الشعوب محبتها لأوطانها إلى تضحيات لا مجال لذكرها، لكثرتها وشدَّة وقعها على قراء هذه الأسطر، وهي محبَّة لا نفاق فيها، فمَن يفدي وطنه بروحه لا يتصوَّر ماركيز بأنَّ محبته لما فداه بأغلى ما لديه، محبَّة غير سليمة، أو قائمة على أرضيات تهتز.

أمير نيويورك وصف المحبَّة في كتابه "النبي" بشكل جميل جدا، وكثير مِن الشعراء سال حبرهم شفاعة لهذه الميزة الرائعة في أرواح الكائنات والموجودات، لنا فيما كتبه العرب أسمى الصور الإنسانية، ولنا فيما كتبه هوميروس أهمَّ الملاحم الجمالية، وفي قواميسنا روائع شعبية أخرى مطمورة في رفوف الذاكرة الجماعية لهذه الثقافة أو تلك، وكلُّها تصب في مكان واحد، ألا وهو: المحبة كمسار نحو التكامل والتظافر.

للمحبَّة مراتب لا يتخطاها الفرد سوى بالتعبير عما يؤمن به مِن مواقف، أقدسها هي محبَّة الخالق، أجملها هي محبة الخَلْق، أنسبها للضمير هي محبة أرض الوطن، والأبهى حضورا هي محبَّة المعاني والحكايات، واعلموا بأنَّ المحبَّة بكافة أنواعها وموازينها هي مِن وصايا ماركيز لأحبائه.