يَضَعُ القرصانُ نفسه في مواقف لا يحسده أحد عليها، يصبحُ بلا شرف، وبلا ذمَّة وبلا مرجعة وبلا حياة أيضا، أمَّا مفاهيم مِن قبيل الكرامة، الثقافة، الصدق والنزاهة، هي صفات لا يعرفها أبدا، ولا يحاول التودُّدَ إليها لا مِن قريب ولا مِن بعيد، لهذا تجده أقرب الناس إلى الهاوية، أقرب بكثير مِن حواف السحيق بشكل لا جدال فيه.

الذُل هو ما يمقته ماركيز إلى درجة الهَوَس، لا يكون ماركيز ذليلاً مهما كلَّفه ذلك مِن أثمان، لو استطاعت روحه النبيل احتمال الذل لكان اليوم محاضرا جامعيا، متزوجا من احدى أستاذات الجامعيات، يزور بلدان العالَم كلَّ سنة، ويربي أولاده ساهرا على رعايتهم كلَّ وقته؛ لكنَّه ليس قرصانا بالمعنى العميق، رغم أنَّه مِن نبلاء بلاد القراصنة طولا وعَرضا.

مَن يحمل المعرفة عنوانا لحياته وأيَّامه لا يمكنه أن يكون ذليلا، لأنَّ "المعرفة ليست إلاَّ الإدراك وعلاقة الارتباط والاتفاق أو التقابل وعدم الاتفاق الذي يوجد بين فكرتيْن من أفكارنا، وهي كذلك دائما سواء أكنَّا نتخيَّل أنَّنا نخمنها أم نعتقد فيها، فنحن مثلا ندرك بهذه الطريقة أنَّ الأبيض ليس أسود، وأنَّ هناك ارتباطا ضروريا بين زوايا المثلث ومساواتها بقائمتيْن" (ليبتنز، أبحاث جديدة في الفهم الإنساني – الطبعة العربية، 1983م، ص:131).

المفكِّر لا يكون ذليلا مهما كلَّفته ظروف وشروط الحياة مِن أثمان وتضحيات، وهذا ما يؤمن به ماركيز، هذا ما يجعله يحمل كلَّ ما يستطيع ليصدَّ به أمواج القراصنة التي تعمل ليل نهار على إذلال النُّبلاء؛ وهو مؤمن خالص الايمان بانتصارهم على السَّفَلة والأنذال مِن القراصنة.

هي أيَّام محدودة ومعدودة نعيشها كبشر، هي أوقات ومواقيت نقضيها على وجه البسيطة كما فعل ويفعل أبناء الإنسانية، فما فائدة أن تخضع وتقوم بإذلال نفسك وترمي بكرامتك بعيدا مِن أجل بعض المظاهر التي لا تزيد سوى في فقركَ الإنساني الرهيب؟ لا يمكن أن نرى ماركيز يتخلى عن إنسانيته لقاء الاحتفاظ بمظهر اجتماعي أو مركز وظيفي على أرض القراصنة، لسبب بسيط: القراصنة ليسوا أهلا لذلك!

عندما تكون حفيدا للمجاهدين الذين قاوموا الامبريالية العالمية في صورة همجية باريس وغطرستها، وعندما تنمو في محيط يدلُّ على إجرام الفرنسيين في كافة الحكايات والأهازيج، فحتما وبطبيعة الأشياء ستشرب من كأس الحرية لدرجة الثمالة إلى حدِّ النشوة والعربدة معا، تصبح ناسكا في محراب الذكريات وعربيدا على جبهات المواجهات – وها قد اختار ماركيز أن يكون مقاتلا على الجبهة الثقافية – إنَّ الحريَّة والأحرار هُم الأعداء الحقيقيون في وجه العبيد وعشَّاق العبودية.

صراع أبديٌّ يدور بين النبلاء والأنذال في كلِّ العصور والأزمنة، هو ذلك الصراع الذي دفع بالأنبياء والنبلاء ليقاتلوا بأشرس مما فيهم، وكم من نبيل مات بين القضبان حرا طليقا، وكم من نذل عاش كلَّ حياته يزور كلَّ بقاع العالَم وهو سجين عبوديته وذله المقيت، لكلٍّ منَّا منبته، طريقه وهدفه في الحياة، فشتَّان بين العبيد والسادة، بين الأحرار والأشرار، بين الرجال واللقطاء.

يكرِّمُ الزمان ماركيز ورفقاءه على سبيل الحريَّة، هذا هو اليقين، حتى ولو عذّبهم الزمن حينا وحتى ولو ساد الأنذال لفترة، فالنَّصر مِن نصيب الصح القح في آخر المطاف، وهو تلك الثمرة الصافية التي لا يتلذذ بتذوقها سوى النبلاء من أبناء الإنسانية، بينما أسوأ مكان في زوايا التاريخ، هو محجوز لكلِّ نذل خائن يخون المحيطين به من أبناء جلدته، وهذا ما هو مؤكَّد ومدوَّن في كلِّ الأسفار على اختلاف الثقافات التي تنتمي إليها.

ليس غريبا على الأستاذ ماركيز محاورةُ الأنذال بلغاتهم، تلك التي لا يفهمون سواها.