تزداد قناعة ماركيز بأنَّ أرض القراصنة ليست مكانا مناسبا لحياة النبلاء؛ والذي يعتبر نفسه فردا واحدا منهم، هذه القناعة تترسَّخُ لديْه كلَّما تعرَّضَ لأحد المواقف التي تجعله يعيش بذهنه إحدى مواقف القرون التي أكل عليْها الدَّهر وشرب، ليفيض بداخله ذلك الانقلاب الفكري الذي عاشه كما عايشه الكثير من النبلاء قبله خلال عصور مضت.
"لكن ذلك (ديكارت) أخطأ بطريقة مزدوجة؛ فقد شكَّ أكثر ممَّا يجب، وتوقَّف عن الشكِّ بسهولة جدا" (شاخت ريتشارد، رواد الفلسفة الحديثة، الطبعة العربية – القاهرة 1993م، ص: 62).
ماركيز (Marquez) يتناقصُ شكُّه في قناعته بترك أرض القراصنة والبحث عن أرض جديدة للعيْش عليها كلَّ حين، هذا الشك في الحياة الوردية التي يتمناها يتضاءل، يرغب بأخذ المسار الذي يراه مناسبا، قد تخونه الشجاعة، قد ينقصه التصميم على إحداث الفرق، قد يرغب بخطف الحياة من ذاته ليفرشها أمامه، فيتأمَّل ما لها وما عليها، لكنَّه لا يستطيع أن يبقى جامدا، وقد أثبت فيما سبق، خلال مراحل بعينها بأنَّه قويٌّ جدا، ومقدام للغاية، وقادر على حمل الشمعة وسط الظلام الدامس، في مكان مليء بالقناصين المهرة في صفوف عدوه، لهذا هو يتحيَّنُ الفرصة، غير متسرع، ويحسب بدقة متناهية التركيز خطواته المتتالية.
الشك والخوف هما ما يجعلان البشر ينقسمون إلى عظماء وبسطاء، هما ما يجعلان النبلاء بهذه القيمة وغيرهم من القراصنة بهذا الانحطاط، لا يوجد عظيم في تاريخ الإنسان لم يهزم الخوف، ولا يوجد أيُّ إنسان عاش أو يعيش حياة مليئة بما تمناه يوما ما، قد هزمه الشك، فالإيمان هو العامل الفاصل في حياة البشر، والقوة تنبع من الثقة بالنفس، من جنون الفرد عندما يسير على حواف الأنهر والجبال حتى يصل إلى القمم، الأمر ليس متاحا للجميع، لأنَّه هناك مَن هو خائف مِن الظلام، ظلام النفق، وهناك من يشك في قدرته على هزيمة الخطر، هنا الفصل بين الجد واللعب، اسألوا مانديلا عمَّا أقول، واطلبوا الشرح من حاتم الطائي لو لم تفهموا ما أرمي إليه.
لطالما استعمل ماركيز بذور الثورة بداخله، نصال التمرُّد التي ولدت في دمائه، من أجل التغلُّب على خوفه وشكه معًا، لطالما كان الجندي القادر على هزيمة نفسه أوَّلا قبل مواجهة باقي القراصنة – هؤلاء التافهون التي ابتليت بهم الجنَّة ما وراء البحر – لقد عمل دائما على إبقاء جمر الاندفاع بداخله متقدا، فقط هو لا يريد أن يصبح عشوائيا في خياراته، لأنَّه يدرك جيِّدًا الخيط الرفيع الذي يفصل الهَبَل عن الجنون.
سيغامر ماركيز، هذه طبيعة حياته، سيرمي كلَّ ما بداخله من خوف وشك خلفه فيصبح من الماضي، وسيقتحم المجاهيل على اختلافها، لأنَّ بركان الاندفاع يكبر بداخله كلَّ يوم، والقراصنة من حوله يقومون بتغذيته بالحِمم كلَّ حين، فعلا هو مقتنع بأنَّ النبلاء سجنهم الأكبر هي أرض القراصنة، وهذه الأرض لا تترك ولا فرد من أبنائها يرحل عنها بسلام، لأنَّها لا تؤمن بالسلام أبدا.
مَن لا يغامر لن يعيش، هذا القانون الإلهي هو ما يخشاه البشر ويخافونه حدَّ الرهاب، لكن الله سبحانه وتعالى قد أوضح لنا بشكل دائم ما مدى جدوى هذا القانون، غامر سيدي محمد عليه الصلاة والسلام فهاجر نحو يثرب، وصنع نوح عليه السلام السفينة في الصحراء، غزا كولومبوس المحيط بكلِّ شجاعة، حارب طارق بن زياد أوربا بكل ما يحمله من قوة، وحمل هتلر السلاح في وجه العالَم إيمانا بعظمة جرمانيا، مَن يرغب بالعيش في هدوء، في حياة لا تعترف بالهدوء، ذاك هو الجبان الذي يسميه ماركيز بالقرصان.