الحياة معقَّدَة أكثر بكثير مما تخيَّلَ ماركيز، وهي أبسط بكثير ممَّا يمكن لماركيز تصوُّره، هذا ما وصل إليه هذا الأستاذ برتبة فيلسوف خلال تفكيره الطويل الذي يمتدُّ لسنوات في الكثير من المواضيع والموضوعات بشكل كثيف للغاية، وهذا ما حثَّه على المغامرة دائما وأبدا، فكلُّ ما قام به ليس صدفة أو ضربة حظ فقط. "كلُّ هذه الأمثلة المزعومة مأخوذة بلا استثناء من أحكام، ولكنها ليست عن أشياء ولا عن وجودها، والضرورة اللا-مشروطة للأحكام ليست ضرورة مطلقة للأشياء" (كانط، نقد العقل المحض – الطبعة الألمانية، ص: 460).
الحقيقة ليست مجانية لأحد، هناك دروب على المرء أن يقطعها دافعا الثمن مسبقا للوصول إلى يقينه الحتمي، هناك منعرجات كثيرة على طول هذه الطريق، هناك الكثير من الصعاب على حواشي كلِّ منعرج، لهذا من الصعب على كلِّ واحد، أن يصل إلى مراده بالسهولة التي يرغب فيها، والقليل جدا من البشر يمكنه الوصول إلى نهاية الطريق بشكل كامل وجدِّي.
ماركيز باحث عن الحقيقة، عن حقيقته منذ زمن بعيد، منذ أن لطمته الحياة بقسوة لتسلب براءته، منذ أن حاول القريب قبل البعيد أن يرميه بين قضبان العبودية القسرية على أرض لا تعترف سوى بالعبيد من أبناء القراصنة وتكرِّمهم أيَّامَ تكريم، ماركيز أخذ على عاتقه ذلك الوعد، الذي قطعه سيدِّي إبراهيم عليه السلام لأبيه – عمِّه، وها هو يعمل على تحقيقه دافعا الثمن بكلِّ المقاييس والمعايير المختلفة. ذلك الوعد الذي قطعه سيدِّي محمد عليه الصلاة والسلام لعمِّه أبو طالب؛ ماركيز يحاول السير على هذا الدَّرب على طريقة جماهير ليفربول الإنجليزية، هو يقسو على نفسه كثيرا، لكنَّ نتائج هذه القسوة تبدوا قريبة التحقيق، هناك أمل في الأفق، حتى ولو بدت النهايات مجهولة بالنسبة إليه، فإنَّه يهرع نحوها بكلِّ ما يحمله من قوَّة وإقبال.
أشعل ماركيز سيجارة وراح يشاهد من شرفته تلك الشجرة التي غرستها الراحلة كريستينا رحمها الله، راح يتأمَّل ميزة الأشياء التي تبقى خالدة بينما يفنى صاحبها، هي شجرة هي كائن حي، أقل شأنا من الإنسان كما يدَّعي هذا الأخير بكل فخر، لكنَّ الإنسان يرحل عن هذه الحياة عندما يشاء الله سبحانه، فتبقى تلك الشجرة من بعده تذكِّر أحبابه المشتاقين إليه به وبحضوره الذي كان يوما ما، يجعلهم يتفاعلون معه بعفوية أو عبر حساباتهم الخاصة.
يحاول ماركيز الابتعاد عن الأحكام الوضعية بكلِّ ما لديه من شجاعة، هو يتبنى المقولة التي تدَّعي بأنَّ لكلِّ إنسانٍ دوره في الحياة، له قصته الفريدة والمتميِّزة، لهذا أمام هذه الرؤيا، تصبح الأحكام مجرَّد أعشاب ضارة تنموا حول الفكرة الرئيسية للاختلاف والتميُّز، تميُّزُ الفرد بلا استثناء.
أوهام السلطة والثراء من وحي ما يسميهم ماركيز بأزلام البشرية، وهذه الأوهام تخرج من الأحكام، تلك التي تصنع المجتمعات المخملية، لكنها أوهام صارت حقائق ومناهج للعيش على أرض الجنَّة ما وراء البحر، صارت قضايا مصيرية، وعلاقات وجودية بشكل يجعل الفرد النبيل مثل الأستاذ ماركيز يتعفف بشكل نهائي في مواجهة هذه الأفكار التي صارت بمثابة بديهيات ومسلَّمات بصورة نهائية ومحكمة التواجد في الأذهان. أوهام كهذه هي السَّبب الأوَّل والأخير لعذابات النبلاء الذين يعيشون على أرض القراصنة، يصبحون أقلية سرعان ما تتعرَّض للاضطهاد القهري الواضح، لأنَّ القرصان يؤمن فطريا بالقوَّة التي تستعمل في البطش، لهذا هو يقسِّم العالَم مِن حوله إلى قسميْن: فريقٌ يستعمل تلك القوَّة ليبطش به، وفريقٌ آخر يتعرَّض لبطشه بسبب عدم امتلاكه لتلك القوَّة. هذا ما يجعل القرصان في ذهن ماركيز أكثر توحُّشًا من الوحوش الضارية في الطبيعة، فمَن يتخلَّى عن إنسانيته لقاء إيمانه بأوهام التفوُّق على غيره عبر تسليمه بالعبودية والانبطاح الذليل، لن يكون إنسانا حتى ولو ادَّعى العكس.