خَرَجَ مَارْكَيز إلى الشرفة ليطلَّ على شارع منزله الكئيب على مرِّ العصور والأزمان، فوجد قطَّ العائلة الهادئ مسترخي يأخذ حمَّاما شمسيا رائعا، هذا المظهر لهذا الحيوان الأليف أغرى ماركيز ليطيل يده ويمسح على فرو هذا القط الأصفر الممزوج بالبياض، وبينما هو في قمَّة الاستمتاع بهذا الفعل اللطيف، خطر بباله سؤال اللامتناهي، بخاصة عندما لاحظ كثافة شعر القط الذي يبدو للناظر إليه بأنَّه غير محدود أبدا؛ حينها سأل ماركيز نفسه: لماذا يمضي الوقت بلا توقُّف؟
"نحن لا نستطيع أن نفهم اللامتناهي؛ وبالتالي لا نملك عنه سوى فكرة لفظية" (كولينز جيمس، الفلسفة الحديثة – الطبعة العربية، ص: 99).
اللامتناهي عادة ما يرتبط بالزمن الذي يسير بلا توقُّف، وهو لحدِّ اليوم لا يزال سرًّا عظيما مِن الأسرار التي تتجدَّدُ دائما ودون انقطاع خلال أعمار كافة الأجيال على اختلافها واختلاف أزمنتها التي لطالما عبرت بلا عراقيل، عبر السلاسة المطلوبة لذلكـ، هذا ما حيَّر ماركيز دائما، خاصة عندما تبادر إلى ذهنه سؤال: لماذا يمضي الوقت (Pourquoi le temps passe)؟
الزمن – الوقت هو الحياة، الأيَّام معدودة ومحدودة بفواصل، لها بداية – ولادة، ولها نهاية – وفاة، وما بينهما وحدات كرونولوجية لا تتوقف مهما فعل الفرد الإنساني، وهذا ما اِعتبره ماركيز أوَّل ركن للمساواة بين البشر، فهُم على اختلافهم في الكثير من المراتب والمثالب، إلاَّ أنَّهم متساوون أمام العبور على طاحونة الوقت التي تجتهد في سحق أيَّامهم بلا شفقة أو تريُّث.
عالج ماركيز هذه المسألة – مسألة الزمن – من مبدأ الزمان الذي يشبه إلى حدٍّ كبير الحبال التي نستعملها يوميا تقريبا لشدِّ أغراضنا، وبالتالي فالسائر خلال رحلة حياته هو كالبهلوان الذي يترقَّب سقوطه في دائرة اللهب أو على تلك النوابض الاسفنجية في أيِّ حين، وهنا يختلف طول وقصر أعمار البشر، إذ ننتقل مِن السرِّ العظيم لمرور الوقت بلا توقف أو انسداد، إلى سرٍّ أعظم هو متى يحين موعد الرَّحيل عن الحياة!
الزمن هو جزء من الزمان، وهو خارج طوع الإنسان وإرادته، هذه هي الفكرة التي طرقت عقل ماركيز عندما أغلق باب الشرفة بعدما عاد أدراجه نحو غرفته الباردة مِن أحد أيَّام ديسمبر الدافئة على غير العادة، تاركا ذلك القط على هواه يسامر جسمه بلسانه الأحمر المائل إلى الوردي، وعليه فإنَّ الإنسان ككائن حيٍّ يتشارك مع كافة الكائنات الأخرى هذا الإحساس بالأزمنة مهما طال عُمرها أو قصر.
فتح ماركيز حاسوبه وراح يبحث عن سرِّ الحياة في علاقتها بالزمن، لتنهال عليه الكثير من الدراسات بمختلف اللغات، تلك التي تشرح موضوع ما يسمى بِـ: مشروع اكسير الحياة، طبعا اعتبر ماركيز هذه المواضيع ضروبا من ضروب الهَبَل أو وهما من أوهام البشرية التي تعمل دائما على الوصول إلى طريقة تبقيها بعيدة عن مذاق الموت.
يُدرك ماركيز بأنَّه يوما ما سيموت، وهذا هو اليقين بالنسبة إليه، لهذا هو يحاول قدر المستطاع أن يشبع رغباته في الحياة، شريطة ألاَّ يزعج أحدا، فهُو حرٌّ ما لم يضر، لأنَّه يعتبر التوازن والانسجام أهمُّ الأركان التي تُبنى عليها السعادة في أيَّامه؛ أغلق الأستاذ ماركيز حاسوبه بلطف أيضا، لبس سترته البنية وخرج من غرفته متجه نحو غرفة الجلوس ليفتح جهاز التلفزيون طامعا في وقت هادئ، منصاعا لرغباته التي لا حدود لها في سماع ومشاهدة الأخبار كلَّ ساعة عبر الوسائط الإلكترونية المختلفة.
بعدما شغَّل التلفزة؛ راح ماركيز وهو مستلقي يفكِّرُ في العلاقة بين زمن البث على الهواء مباشرة والزمن الطبيعي الذي يعيشه كلُّ واحِدٍ منَّا! هنا الفرق إذن: فالزمن الذي يقضيه الصحفي على الهواء مباشرة هو المتناهي، زمنه الطبيعي يشارك زمن البث في التناهي، ولكنَّ الزمان سرمدي لا نهاية له.