وقف ماركيز ذات صباحٍ مشمسٍ وجميل أمام خزانته الجميلة ذات الزخرفة الرومانية العريقة والمغلَّفَة بالكثير مِن المرايا الكبيرة، متأمِّلاً ملامح وجهه الأبيض ذا اللحية التي يعلوها الشيب في مقدمتها، وراح يُعاتب نفسه على أخطاء لم يقترفها وبعضها اقترفها سواءً عن دون قصد أو متعمِّدًا، لقد ورث هذه العادة عن جدَّته كريسينا رحمها الله، كانت تجلس لساعات وقت الظهيرة تحدِّثُ نفسها عن الكثير من الأمور اليومية، مَن يراها ولا يعرفها مسبقا، يشعر وكأنَّه أمام مجنونة تحدث نفسها، ولكنَّها كانت رحمها الله تمام العقل، فبذلك التصرُّف أثناء خلواتها وعزلتها الطوعية، كانت تفضفض عن نفسها، لأنَّ أرض الجنَّة ما وراء البحر، لا تحمل أطباء نفسانيين، ومعظم من يدَّعي ذلك، لا يثق فيهم القراصنة، لأنَّهم لا يعرفون ما معنى "الأسرار المهنية"، قد تحكي مصابكَ لهذا الطبيب النفسي لساعات، وقبل أن تصل بيتك، تكون قصصكَ قد ملأت منطقة البحر المتوسط كلَّها؛ لهذا حافظ ماركيز على الاعتراف بأخطائه لمرآته فقط، فهي أهل للثقة أكثر من أطباء القراصنة النفسانيين!

"ليس لديَّ معرفة عن كيف أكون، بل لديَّ معرفة عن كيف أظهر لنفسي فحسب" (كانط، نقد العقل المحض، الطبعة الألمانية، ص: 141).

أن يقف ماركيز أمام المرآة فهذه عادة جعلته يتراجع عن الكثير من الزلاَّت، هي قيمة رائعة لدعم الروح بالكثير مِن الأناقة، هي قدرة لا مثيل لها لرفع الإنسان إلى مراتب عالية، تجعله قادرا على فهم العالَم بشكل أكبر، لأنَّ المعرفة تصبح بلا قيمة وبسعر التراب عندما لا يتعلَّق الجزء الأكبر منها بالروح الفردي الخاص بالمتأمِّل ذاته.

تِلك الوحدة التي يمرُّ على تقاطعاتها "الكِبَار" في هذه الحياة، هي الدعامة الأساسية لهم أثناء اشتداد العواصف الروحية الرهيبة، هُم يستقون القوَّة لتجاوز الصعاب مِن آبارهم العميقة، التي حفروها في أعماق أنفسهم بأناملهم وبصرخاتهم التي تنتج عن كافة لحظات آلامهم، فعندما يبتسم النبلاء في عزِّ المآسي، فتلك الابتسامات ليست للسخرية مِن قدراتهم، بل هي تعابير عن مواجهة ما يسبب لهم المشقَّة والشَّقاء معًا.

يعيد ماركيز تدوير شريط حياته منذ الطفولة أحيانا، ويقف على الكثير من المواقف، يبني أحكاما ويعدِّلُ أخرى، يسترجع لحظات البسمة كما يستردُّ أركان الصراخ، ويعالج روحه بمفرده ليستطيع إنهاء المسير بشكل متوازن، فكلُّ الديانات السماوية، تُلزمُ أتباعها بمحاسبة أنفسهم قبل أن يُحاسبوا غيرهم، أو يعمد غيرهم إلى محاسبتهم؛ فعلا هي مهمة لا يمكن لأيٍّ كان أن يقوم بها على أكمل وجه.

تنهَّد ماركيز بعمق، أغمض عينيْه للحظة، شعر بذلك الروح يسري في كافة أطرافه، اشتاق لمقطع من طفولته، عندما كان يعود من المدرسة ركضا بين الحقول باحثا عن مساحة ظل تصنعها أشجار الصنوبر العملاقة هربا من أشعة الربيع الحارقة، شعر بأسف عميق، بشوق رهيب لتلك الأيَّام التي شهدت قسوة الطبيعة عليه، لكنَّه مدرك هو قبل غيره، بأنَّ قسوة الطبيعة أرحم بكثير عندما نقارنها بقسوة البشر.

عاد للواقع بعدما فتح عينيْه ثانية، واقع القراصنة المؤلِم والمرح في الوقت ذاته، ازعاج الكلب المسعور الذي يسكن بجانبه، أحكام العائلة مِن حوله، مراقبة الحاقدين له في كلِّ خطواته، وحب بعض المقربين منه له، هو يعيش تناقضات رهيبة بين ما يطالعه على صفحات الصحف والكتب، وما هو يراه ويلمسه من حوله، يعيش بين تجاذبات مختلفة من حيث الطبيعة والتكوين بشكل تام، هذا ما يجعله أحيانا يعترف لمرآته بأحلامه التي تحققت وأوهامه التي لم تتحقق بعد، لا يزال متمرِّدًا، لا يزال يحمل بداخله تلك الموجة الجارفة التي بإمكانها جرف كلَّ ما يحيط به دون مبالاة.