وهذا باب واسع على كل حال.

فقد آمن بسببه قوم كثيرون، وقد ضل بسببه أناس آخرون.

ومنه وجبت الإشارة، وبه تتضح الإشارة.

ذلك لأنه الله تعالى، وذلك لأنه تعالى له المشيئة المطلقة من كل قيد، وله سبحانه إرادة لاتحد بحد.

قال تعالى ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].

وقال تعالى ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40].

وقال تعالى ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253].

وقال تعالى ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ۞ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 16].

ولله تعالى إرادتان: أولاهما شرعية، وأخراهما قدرية.

فأما الإرادة الشرعية: فكقوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت أنه تعالى يريد، كما أثبت سبحانه أنه لايريد، ومنه قوله سبحانه ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾[المائدة: 6].

والإرادة الشرعية دالة بوضوحها على أنه تعالى لا يحب الضلال والكفر، كما أنه سبحانه لايحب الذنوب والمعاصي ، ولا يأمر بشيء من ذلك ولا يرضاه سبحانه، وإن كان قد شاءَ ذلك خلقاً وإيجاداً. كما قال سبحانه ﴿‏‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً‏﴾‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 38‏]‏‏.

وأما الإرادة الكونية القدرية: فهي تلكم الإرادة الشاملة لجميع المخلوقات خيرها وشرها، والتي يقال فيها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

ودليلها من مثل قوله تعالى ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: 125]، وقوله سبحانه ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: 34], وقوله جل وعز ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253]، وقوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118, 119].

وليس يعني بحال أن القول بذلكم يجعل الإنسان مسيراً مجبراً وحسب. بل إن الإنسان بوصفة مخلوقا إيجابيا في تكوينه الرباني، فإنما قد وهبه ربه قيمة واختيارا، وإنما قد منحه مولاه مشيئة وانتخابا، ليعرف غثا من سمين، وليدرك باطلا من حق، فيتيع الحق، ويبطل الباطل، مؤتمرا بأمر ربه، ومنقادا لمشيئة هاديه سبحانه، حيث قال تعالى ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].

والقول بأن العباد لهم مشيئة، إنما هو مقيد بقيده، وإنما هو محدود بحده. ذلك لأن الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه وإن كان قد أذن للعباد أن لهم مشيئة وقدرة، فإنما هم يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، وما شاء لهم أن يفعلوه، وما قدر لهم أن يؤتوه.

ومنه فإن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله تعالى، كما قال الله تعالى ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏.‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54 ـ 56‏]‏‏.‏ وكما قال سبحانه ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً‏۞ ۞‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏﴾‏‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29- 30‏]‏ وكما قال‏ سبحانه أيضا‏ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏.‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏ ۞ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾‏‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27-29‏]‏‏.

وهو من إكرامه تعالى له في جانب أساس من أساسات العمل الإسلامي.

ودلك على هذه الحقيقة أن الله تعالى دائما ما يخاطب الإنسان بأشكال عديدة من النداء الرباني الكريم الحاني، لذلك الإنسان، لجعله محط الأنظار، وإعطائه القيمة الربانية اللائقة به، كيما يمكن القول إن الغلبة إنما تكون باسمه انتهاء، كما أنه قد قدم مشيئة ربه سبحانه ابتداء، وإن كل ذلكم قد وهبه ربه تعالى منحة وهبة وتكريما من مقتضى قوله تعالى﴿ ولقد كرمنا ﴾ وإن كانت تلكم الغلبة أيضا هي في الأصل من عنده تعالى، كما قال سبحانه ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10]. فإن جعل النصر بشرى، وإن جعله أمنا وأمانا وطمأنينة، كل ذلكم من مقتضى مشيئته المطلقة سبحانه، والتي يستكين المؤمنون أمامها، والتي يطمئن المسلمون عندها.

وهو في ذات الوقت ناظر بعيني رأسه إلى سننه تعالى في الخلق على امتداد التاريخ طولا وعرضا في حيثية كان مفادها أن الإنسان هو ذلكم العامل السببي الأول في معركة الإيمان والكفر على أرض الواقع، ومن ثم فهو أيضا ذلكم المؤثر الفعال في البيئة المحيطة به سلبا أو إيجابا، مما يمنحه زادا آخر على الطريق، ليكون التكريم له قد بلغ مبلغه من رب العزة والجلال، وليكون ذلكم دافعا له أن يبذل غاية وسعه في إحقاق الحق وإبطال الباطل، كيما يكون المرء متفاعلا واقعيا مع ذلكم العطاء الرباني الكريم في مسألة هي من أجل ما أعطي الإنسان، وفي جانب هو من أعظم ما حباه به ربه الرحمن - سبحانه - إرادة منه سبحانه ومشيئة واختيارا، وهو من ثم يبذل ذلكم الجهد وسعه، وما أمكنه مولاه، وهو موقن أن ما يقوم به من بذل وعطاء وصبر ومثابرة، فإنما هو حسبة لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه.

ولكي تتأكد لك هذه الحقيقة، انظر إلى قوله تعالى ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 14].

إذ أسند الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه عوامل أرض المعركة إلى ذلكم الإنسان - وحده الإنسان - ليتربع على كرسي الإكرام من الله تعالى ذي الجلال والإكرام، فهم يقاتلون، وهم منصورون، وهم مشفون الصدور، في تسارع عجيب من الإعمال السببي لهذا الإنسان الذي أكرمه ربه تعالى أيما إكرام، يوم أن كان على جادته، ويوم أن سار على طريقته. وبجد وعزم لا يعتورهما خور، ولا يصيبهما وهن أو فتور.

كما أنه في الوقت كان لهذا الإنسان رصيد كبير واسع من إسناد كل ذلكم لربه الرحمن سبحانه. ذلكم لأنه تعالى قال ﴿لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 29].

وهكذا تكون العلاقة صحيحة؛ لأنها بنيت على مقدمات هي الأخرى صحيحة تماما بتمام أيضاً فتأمل!

ومنه جاء النص منه تعالى على تأكيد هذه الكلية كيما تكون مركوزة في ضمير كل مؤمن به تعالى وعقد ويقينه، حيث قال سبحانه ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]. من حيث إنه تعالى قد جعل استقامة الإنسان على الطريقة، كما أنه قد شاء كونه سائرا على المنهج سبباً لعيش كريم، وموجبا لحياة سعيدة هنيئة أنبأك عنها عجيب الاختيار للفظ (غدقاً) وما يشى به من استمرار، وما يتأكد به من طيب العيش وحلاوة المقام من حيث كان الثمن ذلكم التقديم بالسبب، وهو من الإنسان بعون من الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، فتأمل أيضاً!

ولك على النقيض من ذلكم السبب الإنساني ذاته في الهلاك والدمار، وما يمكن أن يتصوره ذو لب من أنواع البلاء والانتقام الرباني لأولاء قوم قد تنكبوا هدي ربهم، وما يمكن أن يتخيله عقل رزين مما يمكن أن يحل بقوم، وحالهم أنهم قد نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم وحالهم (كأنهم لا يعلمون)!

وهو ما تبين عنه نظرة متألقة إلى قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23].

فكما أن الإنسان يمكن أن يكون سببا للصلاح والفوز وحلول البركات في كونه تعالى بتقواه وتوحيد لمولاه، فإنه نفسه - ذلكم الإنسان - يمكن أن يكون سببا لما يحل بأرضه تعالى من النكال والعذاب الأليم، فـتأمل!

لكن الإنسان كسبب للنماء والنصر والعطاء ليس يكون كمثل ذلكم الإنسان على الجهة المقابلة كمعول للهدم والهزيمة والجَزاء. فذلكم صنف وُهِبَت بركته، وذلكم نوع آخر قد سُلِبَت نعمته، فتأمل!