جاء في لسان العرب: "حمس: حمِس الشرُّ: اشتدّ.. والحُمْسُ: قريش، لأنّهم كانوا يتشدّدون في دينهم وشجاعتهم فلا يُطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلّون أيّام مِنًى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها وهم مُحْرِمون، ولا يسلِئون السمْنَ، ولا يلقُطون الجُلَّةَ.. أبو الهيثم: الحُمْسُ قريش ومن ولدت قريشٌ وكنانةُ وجَدِيلةُ قيسٍ، وهم فهمٌ وعدوانُ ابنا عمرو بن قيسِ عيلانَ، وبنو عامر بن صعصعةَ، هؤلاء الحمس، سمّوا حُمسًا لأنّهم تحمّسوا في دينهم، أي تشدّدوا. قال: وكانت الحمس سكّان الحرم، وكانوا لا يخرجون أيّام الموسم إلى عرفات، إنّما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله ولا نخرج من الحرم"[].[ لسان العرب - ابن منظور - ج ٦/57و٥٨].
و" قال في القاموس: الحمس الأمكنة الصلبة جمع أحمس وبه لقب قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة لأن حجرها أبيض إلى السواد، والحماسة الشجاعة "[].[ نيل الأوطار، الشوكاني: ج ٨ / ٧٧].
وعن مجاهد ، في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:28]. قال كانوا يطوفون بالبيت عراة « قال ابن جريج: لما أن أهلك الله تعالى من أهلك من أبرهة الحبشي صاحب الفيل، وسلط عليه الطير الأبابيل، عظمت جميع العرب قريشا وأهل مكة، وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم. فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام والشهر الحرام ووقروها، ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى، وقالت قريش وأهل مكة: نحن أهل الله، وبنو إبراهيم خليل الله، وولاة البيت الحرام، وسكان حرمه وقطانه، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف العرب لأحد مثل ما تعرف لنا. فابتدعوا عند ذلك أحداثا في دينهم أداروها بينهم ، فقالوا: لا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم. وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن الحمس ، أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره. ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب من سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت خزاعة وكنانة قد دخلوا معهم في ذلك ، ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط ولا يسلؤوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما. ثم رفعوا في ذلك ، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا كانوا حجاجا أو عمارا، ولا يأكلون في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قراء وإما شراء، وكانوا مما سنوا به أنه إذا حج الصرورة من غير الحمس - والحمس أهل مكة: قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ممن ولدوا من حلفائهم، وإن كان من ساكني الحل ، والأحمسي المشدد في دينه - فإذا حج الصرورة من غير الحمس رجلا كان أو امرأة، لا يطوف بالبيت إلا عريانا - الصرورة أول ما يطوف - إلا أن يطوف في ثوب أحمسي إما إعارة وإما إجارة، يقف أحدهم بباب المسجد، فيقول: من يعير مصونا؟ من يعير ثوبا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبا أو أكراه طاف به، وإن لم يعره ألقى ثيابه بباب المسجد من خارج، ثم دخل الطواف وهو عريان، يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعا استلم الركن ، ثم استلم نائلة ، فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس، فيأخذها فيلبسها، ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانا. ولم يكن يطوف بالبيت عريان إلا الصرورة من غير الحمس، فأما الحمس فكانت تطوف في ثيابها ، فإن تكرم متكرم من رجل أو امرأة من غير الحمس ولم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها، ومعه فضل ثياب يلبسها غير ثيابه التي عليه، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، فإذا فرغ من طوافه نزع ثيابه، ثم جعلها لقا، يطرحها بين إساف ونائلة، فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها حتى تبلى من وطء الأقدام، ومن الشمس والرياح والمطر. وقال الشاعر يذكر ذلك اللقا: كفى حزنا كرى عليه كأنه لقا بين أيدي الطائفين حريم يقول: لا يمس. فصار هذا كله سنة فيهم، وذلك من صنع إبليس وتزيينه لهم ما يلبس عليهم من تغيير الحنيفية دين إبراهيم، فجاءت امرأة يوما وكان لها جمال وهيئة، فطلبت ثيابا عارية فلم تجد من يعيرها، فلم تجد بدا من أن تطوف عريانة، فنزعت ثيابها بباب المسجد، ثم دخلت المسجد عريانة، فوضعت يدها على فرجها، وجعلت تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله قال: فجعل فتيان مكة ينظرون إليها، وكان لها حديث طويل، وقد تزوجت في قريش. قال: وجاءت امرأة أيضا تطوف عريانة وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف وطاف في جنبها لأن يمسها، فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده، فخرجا من المسجد من ناحية بني سهم هاربين على وجوههما، فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش خارجا من المسجد ، فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقضيتهما، فأفتاهما أن يعودا، فرجعا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا، فرجعا إلى مكانهما، فدعوا الله سبحانه وأخلصا إليه أن لا يعودا، فافترقت أعضادهما، فذهب كل واحد منهما في ناحية » ابتدعت قريش (الحمس)، فأحلوا لأنفسهم أداء الحج دون الوقوف بعرفة! هذا فعل الفئة الظالمة، إذا أطلقت العنان لهواها، دون شرع ربها ومولاها![].[ أخبار مكة للأزرقي: 1/230].
بزيها! وعلى من أبى، أو لايجد أن يطوف بالبيت عريانا! وهذا انتهاك الحرمات لهوى متبع!
ولذا حينما جاء الإسلام بطهارته كان من أوائل مرسوماته وتعاليمه تطهير هذه المجتمعات مما حسبته نظاما لها ودينا وطهارة، فعن أبي هريرة: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ في تِلكَ الحَجَّةِ في مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَومَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بمِنًى: ألَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ. ثُمَّ أرْدَفَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ، وأَمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ ببَرَاءَةَ، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: فأذَّنَ معنَا عَلِيٌّ يَومَ النَّحْرِ في أهْلِ مِنًى ببَرَاءَةَ، وأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ[].[صحيح البخاري: 4655].
وإذ بسبب الحمس كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً تجعلها على فرجها، وتقول، اليوم يبدو بعضه أو كله، فما بدا منه فلا أحله!
فعن عبدالله بن عباس: كَانَتِ المَرْأَةُ تَطُوفُ بالبَيْتِ وَهي عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَن يُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟ تَجْعَلُهُ علَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ: الْيَومَ يَبْدُو بَعْضُهُ، أَوْ كُلُّهُ... فَما بَدَا منه فلا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].[].[ صحيح مسلم: 3028].
أدى ابتداع الحمس إلى انتهاك حرمات الله، وحين اضطروا المرأة أن تطوف بالبيت عريانة، إذا لم تلبس زي قريش! وهكذا تصنع عقول قوم بحرماته تعالى! وحين تطلق العنان للهوى متحللة من قيد الأمر والنهي الربانيين والذين لا يهديان إلا إلى خير، يعود نفعه عليهم، ولا ينهيان إلا عن شر، كان يعود عليهم وباله.
وإذ كان قوله تعالى ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، وبه أبطل الإسلام الحمس! طهارة للنفوس وللقلوب! وإزالة لسلطان طغمة متحكمة بالباطل.
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]. والستر زينة! لكن الهوى يبدل الضوابط والموازين !
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وبه أُبْطِلَ الحمس أيضا!
يتنزل القرآن قوارع لإزهاق باطل صنعته طغمة قريش المتحكمة، كيما لا يكون هناك سلطان إلا سلطان الشرع وحسب؛ إحلالا للنظام وإبطالا لخبط عشواء كان لهم نظاما.
إن مبدأ الحمس تراه في كل زمان؛ وإن تشكل بزي مغاير! تلبيسا على الناس، وإعطاء الأغيار حقوقا ليست للبسطاء من الناس!
أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ الحمس، فلم يعبأ به حتى قبل بعثته. وهكذا يكون الحنفاء أطهارا من رجس، أنقياء من عيبة أبدا، أثوابهم ناصعة، وقلوبهم نقية.
إن المتأمل فيما كانت تصنعه قريش في حرم الله تعالى، يؤدي به تأمله إلى حتمية ظهور دين جديد؛ ليوقف زحفها على القيم والحرمات، ولذا جاء الإسلام .
وهذه مرة أخرى نصوص الحُمْسِ الجائرة: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسلئوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا![].[ السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ١ / ١٣٠]. ولذا كان حقا أن يجيء الإسلام ليرفع ذلكم وضع تخاله النفوس الأبية إذلالا.
قصة زيد بن عمرو بن نفيل
عن عبدالله بن عمر أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ بأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ علَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُفْرَةٌ، فأبَى أنْ يَأْكُلَ منها، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إنِّي لَسْتُ آكُلُ ممَّا تَذْبَحُونَ علَى أنْصَابِكُمْ، ولَا آكُلُ إلَّا ما ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه، وأنَّ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو كانَ يَعِيبُ علَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، ويقولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ المَاءَ، وأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا علَى غيرِ اسْمِ اللَّهِ! إنْكَارًا لِذلكَ وإعْظَامًا له[]. [صحيح البخاري: 3826].
وعن عبدالله بن عمر أنَّ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إلى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، ويَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ اليَهُودِ فَسَأَلَهُ عن دِينِهِمْ، فَقالَ: إنِّي لَعَلِّي أنْ أدِينَ دِينَكُمْ، فأخْبِرْنِي، فَقالَ: لا تَكُونُ علَى دِينِنَا حتَّى تَأْخُذَ بنَصِيبِكَ مِن غَضَبِ اللَّهِ، قالَ زَيْدٌ: ما أفِرُّ إلَّا مِن غَضَبِ اللَّهِ، ولَا أحْمِلُ مِن غَضَبِ اللَّهِ شيئًا أبَدًا، وأنَّى أسْتَطِيعُهُ! فَهلْ تَدُلُّنِي علَى غيرِهِ؟ قالَ: ما أعْلَمُهُ إلَّا أنْ يَكونَ حَنِيفًا، قالَ زَيْدٌ: وما الحَنِيفُ؟ قالَ: دِينُ إبْرَاهِيمَ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا، ولَا نَصْرَانِيًّا، ولَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقالَ: لَنْ تَكُونَ علَى دِينِنَا حتَّى تَأْخُذَ بنَصِيبِكَ مِن لَعْنَةِ اللَّهِ، قالَ: ما أفِرُّ إلَّا مِن لَعْنَةِ اللَّهِ، ولَا أحْمِلُ مِن لَعْنَةِ اللَّهِ، ولَا مِن غَضَبِهِ شيئًا أبَدًا، وأنَّى أسْتَطِيعُ! فَهلْ تَدُلُّنِي علَى غيرِهِ؟ قالَ: ما أعْلَمُهُ إلَّا أنْ يَكونَ حَنِيفًا، قالَ: وما الحَنِيفُ؟ قالَ: دِينُ إبْرَاهِيمَ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا، ولَا نَصْرَانِيًّا، ولَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ في إبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أشْهَدُ أنِّي علَى دِينِ إبْرَاهِيمَ[].[صحيح البخاري: 3827].
وعن أسماء بنت أبي بكر: كان زيدُ بنُ عمرِو بنِ نفيلٍ في الجاهليَّةِ يقِفُ عندَ الكعبةِ ويَلزِقُ ظهرَه إلى صفحتِها ويقولُ يا معشرَ قريشٍ ما على الأرضِ على دينِ إبراهيمَ غيري وكان يفدِي المَوْؤُودةَ أن تُقتَلَ وقال عمرُو بنُ نفيلٍ عزَلْتُ الجنَّ والجنانَ عَنِّي كذلك يفعَلُ الجَلِدُ الصَّبورُ[].[ مجمع الزوائد، الهيثمي: 9/421]. خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن.
وعن جابر بن عبدالله: سُئل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن زيدِ بنِ عَمرو بنِ نُفَيلٍ أنه كان يستقبلُ القبلةَ في الجاهليةِ ويقول إلهي إلهُ إبراهيمَ وديني دينُ إبراهيمَ ويسجدُ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحشَرُ ذاك أمةً وحدَه بيني وبين عيسى بنِ مريمَ[].[البداية والنهاية: 2/224]. خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد حسن.
وعن سعيد بن زيد: أنَّ زيدَ بنَ عمرٍو وورقةَ بنَ نوفلٍ خرجا يَلْتمسانِ الدِّينَ، حتَّى انتهيا إلى راهبٍ بالموصلِ، فقال لزيدِ بنِ عمرٍو: مِن أين أقبلْتَ يا صاحِبَ البعيرِ؟ قال: مِن بَنِيَّةِ إبراهيمَ، قال: وما تلتمِسُ؟ قال: ألتمِسُ الدِّينَ، قال: ارجِعْ؛ فإنَّه يُوشِكُ أنْ يظهَرَ الَّذي تطلُبُ في أرضِك، فأمَّا ورقةُ فتنصَّرُ، وأمَّا أنا فعُرِضَتْ عليَّ النَّصرانيَّةُ فلم تُوافِقْني، فرجَعَ وهو يقولُ: لبَّيْكَ حقًّا حقًّا * تعبُّدًا ورِقًّا، البِرَّ أبْغِي لا الخالَ * وهل مُهجِّرٌ كمَن قال: آمنْتُ بما آمَنَ به إبراهيمُ، وهو يقولُ: أنفي لك عانٍ راغمٌ * مهما تُجشِّمْني فإنِّي جاشمٌ. ثمَّ يخِرُّ فيسجُدُ. قال: وجاء ابنُه إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي كان كما رأيتَ وكما بلغَكَ، أفأستغفِرُ له؟ قال: نعمْ؛ فإنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً وحدَه. وأتى زيدُ بنُ عمرٍو على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومعه زيدُ بنُ حارثةَ، وهما يأكُلانِ مِن سُفرةٍ لهما، فدَعَواه لطعامِهما، فقال زيدُ بنُ عمرٍو للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا ابنَ أخي، لا نأكُلُ ممَّا ذُبِحَ على النُّصبِ[].[إتحاف الخيرة المهرة، البوصيري: 1/104].
بيد أن زيدا له شأن آخر؛ ذلك لأنه كما سوف يأتي قد بلغ الإسلام منه مبلغا، حتى أثر الحق في خلجاته وسكناته وحركاته، فخرج يهيم في أرض الله تعالى؛ بحثا عن حق، قد أشع نوره في قلبه، ولما قد تنصر غيره أو أشرك.
وإذ فارق زيد بن عمرو بن نفيل دين قومه، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومه بعيب ما هم عليه[].[السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ١ / ١٤٧]. ومنه فإن المواجهة بالعيب موقظة محفزة للعودة إلى الجادة.
لم يدخل زيد بن عمرو بن نفيل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه. وإذ لم يكن إمعة تابعا. بل كان موطنا نفسه، مائلا إلى الحق، معرضا عن الباطل.
وإذ قال زيد: اللهم لو أنى أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه. وهذه بشارات خير قادم؛ جزاء بحثه عن الحق، ونفرته من الشرك.
وإذ سأل سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمر بن الخطاب وهو ابن عم زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: نعم، وفيه شفقة ذي رحم على رحمه.
هذه شهادة فإنه يبعث أمة وحده. وهي شهادة الرسول لزيد. فرد يبعث أمة وحده؛ لأنه جانب الشرك حقا، ووحد الله حقا. وبه فأنت أمة حين تكون صحيح العقيدة. وأنت لا شيء حين يحل فسادها في الفؤاد!
أجمع زيد الخروج من مكة يطلب الحنيفية ، فصدته صفية الحضرمية والخطاب بن نفيل عمه، وكان يعاتبه على فراق دين قومه. وهذه عقبات على الطريق، ولما لم يعبأ بها حنيفي كزيد أو حذا حذوه. وحين علم الله تعالى من عبده صدقا ذللها له.
كان زيد إذا استقبل الكعبة يقول: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا. وهذه ترانيم موحد، وكانت قريش تقول: لبيك اللهم لبيك لاشريك إلا شريكا تملكه وما ملك! وهذا شرك بين عواره!
وإذ آذى الخطاب زيدا فأخرجه إلى أعلى مكة، ووكل به شبابا من قريش و سفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة. وهكذا الباطل عند مفاصلته!
وهو تسلية لأهل الحق أبدا! فلقد كان سلفهم في ذلكم زيد، وغيره من حنفاء، سطروا ميثاق العهد الغليظ مع ربهم الرحمن سبحانه، فانعتقوا من ربقة الشرك، وانحازوا بكليتهم إلى الإيمان به تعالى وحده، موحدين إياه تعالى، حين قد أفردوه سبحانه في ألوهيته وربوبيته، فأحلوا سلطانه في قلوبهم، قبل أن يكون واقعا فريدا محسوسا ملموسا في حياتهم!
لكنه ولما تغفل حقائق هذا الدين، وما يفعله في القلوب، حين يجعلها ساكنة مطمئنة إلى وعد ربها الحق سبحانه.
وإن صاحب العقيدة الصحيحة ليهون على الأقربين من قومه، قبل أن يكون قد هان أمره أمام الأغيار، ليتشفوا فيه، وما ذاك إلا لأنه يقول: ربي الله، وللحق الذي يحمله!
أخرج أهل مكة زيدا وآذوه لئلا يفسد عليهم دينهم! أرأيت نظرة الباطل إلى الحق كيف كانت، وحين صار المصلح مفسدا في نظرهم؟!
ولكنه ولما أن أخرجوه لدينه، وليس لشيء آخر عند المسلم غيره، وقد كان؛ ليحتسب ويصبر، ويزداد صلابة في دينه!
لاهم إني محرم لا حله * وإن بيتي أوسط المحلة عند الصفا ليس بذي مضلة! وهذه صلابة زيد عندما أخرجه قومه! ثبات في يقين، وعزم في إصرار!
وقال زيد: وما أفر إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه. فحين صدق الله تعالى فصدقه. ومن يتحمل من غضبه تعالى وإن قل؟ وهو هدف سامق وغاية يبلغ شأوها السماء العالية!
خرج زيد يطلب دين إبراهيم عليه السلام، ويسأل حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كله! وإذ لا يأتي الحق أحدا وهو متكئ على أريكته! فمن يخطب الحسناء لم يغله المهر!
لكنه ومما يوجب حيرة لفهم أولاء، ولما قد كانت فيهم بقية من دين أبيهم إبراهيم عليه السلام من قبل، ولما كان هو قدوة زيد، وهم يزعمون ذلك فلم العداء إذاً؟!
لكن فعل زيد ليس غريبا أمام باغ للخير مقبل عليه، ورافض للباطل معرضا عنه، وذلك لأن المبتغى هو جنة عرضها السموات والأرض، أعدت لذلكم نفر قد بذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى مولاهم الحق ،. ولما كانت الجنة هذا هو ثمنها فإن سلعة الله غالية!
إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم! هذا قول راهب! فما بال القوم لا يسلمون وعلى سنة راهبهم؟!
وهذا ناموس ضارب عهده! وإنه حين يعز الحق فيعز أهله! وغربة الحق وغربة أهله!
وإذ يجول زيد الأنحاء والأرجاء؛ عساه أن يجد على الحق أعوانا. فقد كان ذليلا بين أهله وذوي رحمه!!!
وإذ يقطع زيد الفيافي؛ بحثا عن حق، كان أهله أولى به؛ لأن فيهم بقايا من دين إبراهيم عليه السلام. وهذه حجة دامغة أن يقول رجل من بينهم: ربي الله؛ لئلا يعتذروا.
إن إخراج قريش لابنهم زيدا إمعان في التنكر للرحم، وإيذان لإدارة الظهور لمعاني الرحمة، فماذا أنت قائل في صنف هذا شأنه مع الحق وأهله؟!
يهدهد أهل الحق قومهم، لكنهم يصرون على إذلالهم وإخراجهم من قريتهم، بسبب أنهم قوم يتطهرون! وهل رأيت أعجب من ذلك؟!
لكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك(مكة)،هذا قول راهب لزيد! فلماذا لم يتبع القوم محمدا صلى الله عليه وسلم، وحين بعث، وهو أعظم محبة لأخيه عيسى عليه السلام، مما يزعمون هم حبه؟!
أخبر راهب زيدا أن اليهودية والنصرانية شيء وأن إبراهيم كان حنيفا فلا يعبد إلا الله وحده. فدعا زيد ربه: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
خرج زيد إلى الشام، هو وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش فتنصروا، إلا زيدا فكان حنيفيا. لتبقى حجة الله قائمة.
وإذ يرجع زيد منطلقا إلى مكة، بعد بشارة الراهب بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليقتلوه شهيدا باحثا عن الحق محبا له مؤثرا عليه نفسه التي كانت بين جنبيه!
رشدت وأنعمت ابن عمرو، وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله*وتركك أوثان الطواغي كما هيا[].[السيرة النبوية، ابن كثير:ج ١ / ١٥٦]. هذا نعي ورقة لزيد رحمه الله.
ومنه فموت على الحق، أو حياة عليه، فذلكم هو سبيل المسلم الحق، الذي قد أسلم وجهه لله تعالى، وهو محسن، وهو شأنه ذلكم فرد قد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها!
قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا. هذا نبأ الرسول ص عن جزاء زيد الحسنى. وهو طمأنة لكل حنيفي بجزاء الحسنى أيضا، مهما أخرج أو ضيق عليه أو أوذي
فلو قد جاء المنحمنا- محمد بالسريانية- الذي يرسله الله إليكم...فهو شهيد على وأنتم[].[إصحاح يوحنا (15)، عدد (26)]. هذا نص الإنجيل عن سيدنا عيسى النبي عليه السلام! فماذا هم قائلون؟!