قال الله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98 ].

وأمام قراءة أولية للنص القرآني الكريم السابق سنجد أن هناك علاقة بين الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وبين قراءة الذكر الحكيم، وهو  القرآن العظيم، ذلك لأن القرآن العظيم نور، والشيطان ليس من طبعة محبة النور! وذلك لأن القرآن الحكيم هدى، والشيطان الرجيم لا يركن إلى الهدى! وذلك لأن القرآن العظيم شفاء، والشيطان الرجيم لا يريحه أن يكون أحد في صحة وعافية، وذلك لأن القرآن المجيد رحمة، والشيطان الرجيم مطرود من كل أبواب الرحمة، فكيف به يهدأ له بال إلا أن يصرف الإنسان عن أسباب الرحمة، وأولها القرآن العظيم، تلاوة، وتدبرا، واقتداء بآدابه، وتأسيا بأخلاقه، وعملا بأوامره، وانتهاء عن زواجره!ن الرآن العظيم نور

 

بيد أن الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم لها أسرارها، والتي ما فتئت أن تكون منحا ربانية للعباد، وهبة إلهية للحاضر منهم والباد، يستعينون بها ربهم الحق أن تهدأ بها قلوبهم، أن ربا رحيما سيعيذهم، لتمتليء قلوبهم من خوفهم أمنا وسلاما وطمأنينة وسكينة. وذلك لأنهم يوقنون ألا ملجأ من الله تعالى إلا إليه رغبة ورهبة إليه سبحانه.

ولقد كان منه أنها سبب لرضا الرب، وأنها تذهب غضب العبد، وتطفيء نار ذلك الغضب المتأجج سعاره ليهدأ من بعدها، وليصفو من ورائها، كما أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث عدي بن ثابت ، قال : "سمعت سليمان بن صرد ، رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما ، فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة ، لو قالها لذهب عنه الذي يجد فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال : تعوذ بالله من الشيطان فقال : أترى بي بأس ، أمجنون أنا ، اذهب"[1].

ولقد كان منها التغلب على وسوسة الشيطان عموما، و في الصلاة خصوصا، وذلك لأن الصلاة يذهب الله تعالى بها الخطايا، ومنه كان حضور الشيطان، وأشد ما يكون حضوره عند إقامة عبد الصلاة بين يدي ربه، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى، أن عثمان بن أبي العاص ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثا قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني "[2].

وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال: وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك"[3].

ولطيفة حسن بيانها؛ ذلك وأن همزات الشياطين لتفعل في الإنسان فعل الخنق حين يتلبسه إبليس بخيله ورجله، وكأن قواه قد خارت، وكأن عزائمه قد انهارت، وكأن صدره قد تحشرج، فكان كالمخنوق، كما قال ابن زيد، في قوله : «وَقُل رب أعوذ بك من همزات الشياطين» قال: همزات الشياطين : خنقهم الناس، فذلك همزاتهم"[4].

ودلك على عظيم أهميتها في دفع الوساوس، أنها دليل صدق التجاء إلى الله تعالى في طرد نزغات الشياطين، وأنها دليل إخلاص في لجؤ العبد إلى رب العالمين، ومنه فإنه لولا ذلكم لأفسد عليه الشيطان سائر عباداته، ولولا ذلكم لأبطل عليه إبليس عموم خلواته وجلواته.

بيد أن لطيفة ثانية حسن الإشارة إليها، وذلك أن نزغا ولو واحدا يمكن أن يطرأ على الإنسان، وذلك أن دفعه والحال ذلك واجب بنص الآية الكريمة ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف: 200]، وذلك لأن نزغا واحدا من إبليس يمكن أن يعكر صفو قلب امريء مسلم، فضلا على أن يكون سببا موجبا لتراكم النزغات على قلبه حتى يصير عليه كالران، وهو ما أو جب القرآن الاستعاذة من نزغات إبليس، ولو كانت نزغة واحدة! فأَمْرُهُ - سبحانه - بالاستعاذة به تعالى عند ورود الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية واجب الأداء.

ولقد كان منها دفع الضرر المحيق لعبد إذا نزل منزلا، وذلك لأن نزوله منزلا ما مظنة مفاجآت، ولا عهد له سابقا بها، فكان استشعاره لزوم الاستعاذة بالله تعالى مولاه الحق المبين عندها من أكمل وجوه التوحيد، وذلك لأن هذه الاستعاذة علاوة على أنها من دلالات التوحيد الخالص لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، إلا أنه تعالى قد جعل منها حجابا للعبيد، مما يمكن أن يفجأهم من شر، أو يحيق بهم من ضرر، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى  من حديث سعد بن أبي وقاص ، يقول : "سمعت خولة بنت حكيم السلمية ، تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من نزل منزلا ثم قال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء ، حتى يرتحل من منزله ذلك"[5].

و"لما كان الشيطان على نوعين: نوع يرى عيانا، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يرى، وهو شيطان الجن، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه، والعفو، وجمع بين النوعين في سورة الأعراف، وسورة المؤمنين، وسورة فصلت، والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطين الإنس "[6].

و" إن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى المودة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطان لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل "[7].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " والهمزات : جمع همزة كتمرات وتمرة وأصل الهمز الدفع قال أبو عبيد عن الكسائي : همزته ولمزته ولهزته ونهزته إذا دفعته والتحقيق : أنه دفع بنخز وغمز يشبه الطعن فهو دفع خاص فهمزات الشياطين : دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب قال ابن عباس والحسن : همزات الشياطين : نزغاتهم ووساوسهم وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم وهذا قول مجاهد وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون"[8].

وقال تعالى:﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [فصلت : 36]،قال ابن جرير رحمه الله تعالى : " يقول تعالى ذكره: وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، ودعائك إلى مساءته، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته، ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته، وحدَّثتك به نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك، وغير ذلك من أمور وأمور خلقه "[9].

قال الرازي رحمه الله تعالى : " إن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار "[10].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها مع تضمنها فائدة شريفة وهي كمال التوحيد وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره فهو وحده المنفرد بالحكم فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه منه إلا هو فهو الذي يريد به ما يسوؤه وهو الذي يريد دفعه عنه فصار سبحانه مستعاذا به منه باعتبار الإرادتين ( وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فلا كَاشِفَ لَهُۥۤ إلا هُوَ ) فهو الذي يمس بالضر وهو الذي يكشفه لا إله إلا هو فالمهرب منه إليه والفرار منه إليه واللجأ منه إليه كما أن الاستعاذة منه فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه فهو الذي يحركه ويقلبه ويصرفه كيف يشاء "[11].

ألا وإن للشيطان لمة، ومنها يستعاذ به تعالى، وقد أورد الإمام ابن القيم حديثا عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه "إنَّ للمَلَكِ الموكَّلِ بقَلبِ ابنِ آدَمَ لَمَّةً، وللشيطانِ لَمَّةً، فلَمَّةُ المَلَكِ إيعادٌ بالخَيرِ وتَصديقٌ بالحقِّ ورجاءُ صالحِ ثوابِه، ولَمَّةُ الشيطانِ إيعادٌ بالشرِّ وتَكْذيبٌ بالحقِّ وقُنوطٌ منَ الخَيرِ، فإذا وَجَدْتم لَمَّةَ المَلَكِ، فاحْمَدوا اللهَ وسَلوه من فَضْلِه، وإذا وَجَدْتم لَمَّةَ الشيطانِ فاستَعيذوا باللهِ فاستَغفِروه"[12].

[1][صحيح البخاري،  كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، حديث رقم: 5724].

[2][ صحيح مسلم، كتاب السَّلَامِ، بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ شَيْطَانِ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ، حديث رقم: 4200].

[3][ إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان- ابن قيم الجوزية: ج1/95 ].

[4][ تفسير الطبري : ج9/242].

[5][صحيح مسلم، كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، بَابٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَغَيْرِهِ، حديث رقم: 5010].

[6][ زاد المعاد في هدي خير العباد - ابن القيم الجوزية :ج2/420].

[7][ تفسير ابن كثير: ج1/26].

[8][ إغاثة اللهفان - ابن قيم الجوزية:1/95].

[9][تفسيرالطبري:ج11/111/30550].

[10][تفسير الرازي: ج1/72].

[11][طريق الهجرتين و باب السعادتين، ابن القيم جوزية: 1/431].

[12][تخريج زاد المعاد، شعيب الأرناؤوط، الصفحة أو الرقم: 2/421]. وقال المحدث : إسناده منقطع.