يستيقظُ ماركيز منزعجا بسبب صوت مزعج للغاية يُحدثه أحد القراصنة مِن جيرانه الأغبياء، فالقرصان على أرض الجنَّة ما وراء البحر يدَّعي الحداثة، ليقلِّد أوربا في كلِّ شيء له من السوء نصيب، لكن من المستحيل أن يستقي القراصنة الاحترام فيما بينهم مثلما يحترم الأوربيون حريات غيرهم، باختصار: القرصان وإن لبس بذلة وربطة عنق على الطريقة الأوربية، فإنَّ تصرفاته تبقى في تصنيفها كتصرفات الكلاب المصابة بداء الكلب، أي يبقى حيواني التصرُّف دائما، تغلب على طباعه طبيعته الغريزية المتوحشة، وقلَّة الأدب أو انعدام الاحترام هو أقلُّ ما يُقال في حقِّ هذه المخلوقات التي يعتبر ماركيز الحيوانات أشرف منها بكثير.

بقي القراصنة في وضعهم المتوحش رغم ارتدائهم لمظاهر الحضارة، هذا ما يراه ويلمسه ماركيز في كافة ما يصادفه يوميا، بل إنَّ بعضهم قد تجرَّأ على الله سبحانه وتعالى، فتجده يتكلَّمُ باسم الدين، يعتلي المنابر باسم الدين، يقضي حاجاته ومصالحه الشخصية باسم الكتب المقدَّسة، ويظلم الناس أيضا باسم هذا المقدَّس الذي جعله هؤلاء بمستوى مناديل التنظيف حسب اعتقاد ماركيز، وهذا لم يحدث حتى في أوربا ""الكافرة"" كما يقولون.

في بداية عصر النهضة الأوربي، وفي عزِّ الصراع بين كنيسة القرون الوسطى والتنويريين، ظهر أبو الحداثة الأوربية رونيه ديكارت في قمَّة جلاله، عندما أرجع الدين لله سبحانه وتعالى، مبقيا على الاستدلال والاستقراء بين صفحات قواميس البشر فقط، حيث قال: "إنَّ الحقائق الموحى بها والتي تهدي إلى الجنَّة هي فوق فهمنا، ولم يكن لي أن أجرؤ على أن أسلِّمها لضعف استدلالي" (ديكارت رونيه، المقال في المنهج – الطبعة الفرنسية، 1985م، ص: 172).

لا يفرِّقُ الأستاذ ماركيز بين "جاره" الذي يقوم بكل ما في وسعه لإزعاجه، بسبب مَرَض – باتولوجي ينخر حياته البائسة، وبين مَن يستغلُّ الحالات الإنسانية التي أمر بها الدين لتتآلف القلوب فيما بينها، فيحوِّلها عن مقاصدها ليخدم أغراضه الشخصية الأنانية، فكلاهما في الكفَّة ذاتها وإن اختلفت الألوان والمسميات.

يزحف ماركيز باتجاه المطبخ مغرِّدًا كالعصافير في قلب الربيع، محاولا تفتيت ذلك الصوت المزعج وإضفاء القليل من المرح على بداية يومه الذي يبدو قاتما، يجلس لتناول فطور الصباح، وهو يفكِّر في سلسلة "الملائكة" التلفزيونية، التي تروي قصة شباب أوربيين يقضون عطلتهم في المغامرات وزيارة الأماكن الساحرة، بينما هو محروم حتى مِن قراءة أحد كتبه بهدوء، لأنَّه يعيش بين قراصنة – يعتبرهم الأوسخ في تاريخ الكوكب منذ بداية الحياة، لكنَّه سرعان ما يستعيد توازنه، يعود إلى غرفته، ويحاول الإبحار في بحر التفكير والفكر بين نصوصه المختلفة، متناسيا ما يحدث بجانبه، مِن مبدأ أنَّ القافلة تسير و.... الخ.

في الحياة الكثير من المطبات والابتلاءات التي يجب على الفرد فهمها قبل التعامل معها، ولا سبيل له للوصول إلى تلك القيمة المعرفية النقية، سوى بالمرور على كافة العوائق، وهذا واضح بالنسبة لماركيز، لكن أن يعيش الإنسان بين قومٍ دينهم وديدنهم هو الحقد والعمل ليل نهار على إفساد حيوات غيرهم، بكلِّ الطرق والطرائق، بكافة المعطيات والوسائل، فإنَّ الأمر يزداد ويعظم في عمق الروح ليصل منطقة الجهالة، تلك التي يقاتل ماركيز من أجل الابتعاد عنها.

كلَّما صادف الأستاذ ماركيز موقفا يعبِّر عن مدى وساخة القراصنة، تذكَّر موقف نبيَّ الإسلام، محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يمشي مع أصحابه ومن اتبعه في شوارع مكة، بينما قومه وأقرب الناس إليه يرمونه بالأشواك والحجارة وكلُّ ما يصل إلى أيديهم وعقولهم ويكون مؤذيا لجسده الشريف، ومع ذلك صبر وانتصر بصبره الجميل.

لا يختلف جار ماركيز المزعج عن حمَّالة الحطب، بل هو أبشع، صَبْرًا ماركيز، فالقراصنة هُم ابتلاؤك الأعظم!