وكأني بقصص القرآن العظيم إنما جاءت لا لتسلية العبيد قراءة، بل إنما كان ذلك لعلاج قضية الوجود كله وهي مسألة عبادة تعالى وحده لا على وفق هوى أحدنا أو نظامه وإنما على وفق شرعه تعالى وإرادته ومن هنا أؤكد كما أكد يري ولاشك على ضرورة تناول القصص القرآني من ذلكم جانب كيما نكون مصيبين حال تناولنا لدراسة الكتاب المبين حق دراسته لا في معزل عن قضية الألوهية وما أصابها من وهن ومن أسف من أهلها حتى كادت أن تضيع وكأنها أوشكت على ضعف في تناولها وخور في بيانها وأكرر ومن أهلها ومن أسف!

حتى صرنا وصار غيرنا في دهشة من قول الناس ( أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) وهم ينذرون لغيره وهم يحكمون بغير أمره وهو يشرعون بغير شرعه وهم يحلون ماحرم وهم يحرمون ما أحل! ونسوا أن الشهادة لاتكون حقا إلا عن حضور وعلم يشهدان على كونها قضية محسومة في الوجدان وفي التصور والضمير وقيم الناس وموازينهم فتأمل!

ودلك على صدق ما أقول كيف كان من توفيق الله تعالى لسيدنا يوسف عليه السلام، وكيف أنه تناول قصته كلها من أولها إلى آخرها تعريفا بقضية الوجود كله، وتطويعا لها كأحسن ما يكون التطويع كأحسن ما يكون التعريف، وهي تيكم المتعلقة بتصحيح حياة الناس موافقة لشرع الله تعالى ربنا الرحمن، وكيف أن ذلك وحده كان كافيا لتلخيص القصة كلها حول ذلكم الأمر الأهم، والبالغ في أهميته مبلغا كان معادلا لما قد أراده الله تعالى حقيقة من وراء سرد قصة كهذه بل ومن وراء قصصه في الذكر الحكيم كله، بل ومن وراء خلقه للوجود كله من أساس، وانظر إلى قوله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات:56]. ليدلك أكثر عن صدق قولي وبوركت. 

وانظر إلى كفية استغلال الحدث لخدمة هذه المسألة الأم وكيف كان توفيق سيدنا يوسف عليه السلام في تطويع قصته كلها لسبر أغوارها ومن حيث قال الله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)

وكأني به عليه السلام معرضا عن حكايته كلها، على نحو ما ذكر الكتاب المبين  ليكون همه الأساس هو ذلكم القول الفصل(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)

وكأنه عليه السلام قد وفق أحسن توفيق وأبلغه لما أن قد استغل حدث الرؤيا  ولينبأهما نبأ هو في حياتهم وغيرهم أهم من حدث الرؤيا بل وما حدث الرؤيا في مقابلة حدثه هو من أول القصة إلى آخرها؟ فذلكم لايساوي شيئا كثيرا في مواجهتها.

 أما قضية الوجود كله، وهي مسألة الألوهية لله تعالى وحده بلاشريك، بل إن هذه القصة وغيرها لم يكن لينزل نظم كريم فيها إلا تطويعا لخدمة هذا الأمر وغرسه في النفوس، ليجري فيها كما يجري الدم في العروق فتأمل!

والتشويق بالإقبال عليه أمر هام في كيفية تطويع الحدث لخدمة الدعوة إلى الله تعالى ومنه يفيد أصحاب الدعوات كيف يمكنهم تطوير هذا الأمر لإشاعة الخير بين الناس باستغلال أقضيتهم نفسها لذلكم كما حدث مع نبي الله يوسف عليه السلام. إذ كان استغلاله لترقب تعبيره رؤياهما أمرا جديرا في كيف أنه أفلح في إسماعهم كلمة الله تعالى وهم يترقبون فيسمعون دمج مسألة الرؤيا في مسألة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى على وجهه لا كما قد ورثوه ولا كما قد عهدوا عليه قومه ليكونا هما نفسيهما فيما بعد شعلة خير ومنارة هدى لا ليكون عبد ونبيه وحده في الميدان وتلك منحة من الله تعالى وتوفيق منه سبحانه لنبيه يوسف عليه السلام ولمن حذا حذوه في مهارة استغلال الحدث لخدمة القضية الأساس وهي مسألة العبودية الخالصة لله تعالى وحده.

 ومن حيث لم يتركهم حيارى فقد أومأ إلى أن مسألة تأويل رؤياهما ليست أمرا جللا ليس يقدر عليه لتتكون لديهم هالة من صدقة وهالة أخرى من إمكانياته فيحرصون ويثقون وينتظرون!

وهي مسألة أخرى في كيفية شحذ همم المدعو كلها واستنهاض ما لديه من مشاعره كلها كيما يمكن للداعية أن يقذف فيها الحق فتلقى قبولا كليا لاتشوبه شائبة من اعتراض ولا تعكرمن صفوه شبهة ولا تميل من استقامته شهوة ومن ثم يخرجون مسلمين حقا ليكون باب إدخالهم إلى الملة صحيحا بلا دخن ومنه يستمسكون (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا )[البقرة:256].

 ويظهر أن إمكان تأويله رؤياهما من القرب بمكان قرب حلول وقت طعامهم، وهو من بلاغة النظم الحكيم أيما بلاغة، وهو من توفيق الرب الحكيم لعبد أيما توفيق، ليغرس فيهم الأمل بقرب حلول التأويل كقرب زمن مجيء طعامهم فتأمل!

وكون طعامهم(تُرْزَقَانِهِ) فهو تمهيد آخر إلى أنه وكمثل ما إن طعامكم يأتيكم على غير جهد جهيد منكم، وقد أعد لكم سلفا، وكمثل قرب مجيئه إليكم على حين جوع وظمأ منكم، جعلت منه نفوسكم مشرئبة إليه، ومنه مسألة تأويل رؤياكما، ولسوف تأتيكم كفلق الصباح فانتظروا!

وهي ملاحة في البيان، وتشويق بلغ أفقا أوسع ما يمكن تصوره في كيفية إمكان الداعية أن يجعل من المدعوين يحبسون أنفاسهم لتلقي أمر الدعوة باحتراف وانسجام تامين تامين!


 وليس يكون رزق رزقا إلا حال كونه كان نافعا، وليس يكون نافعا إلا حال كونه كان طعاما كقوله تعالى(وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا) [آل عمران: ٣٧] وقَوْلِهِ سبحانه (أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) [الأعراف: ٥٠]، وقَوْلِهِ جل وعلا(ولَهم رِزْقُهم فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا) [مريم: ٦٢]. وإلا حال كونه كان إنفاقا كقوله تعالى(وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهُمْ) [النساء: ٥]. وإلا حال كونه كان عطاء كما كان الحال إبان عصور الخلاقة الراشدة أن كانوا يسمون ما يعطى للجند بأنه عطاء.

وليس يفهم من قوله (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) أنه عليه السلام  قد يتجاسر على ادعاء علم غيب أو ما شابهه، وإنما يجب أن يفهم منه ما يليق بمقام عبد فقير إلى مولاه، يسند كل نعمة هو فيها إلى خالقها ومسديها في المقام الأول وفي المقام الأخير معا، ذلك أنه يعي تماما قول ربه الرحمن سبحانه(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)[النحل:53].

لكنه وإن شئت فقل هو استشراف لفضله تعالى ومنه وعطائه، وهو حسن ظن عبد بربه ملازم له أبدا ملازمته لعبوديته لربه الرحمن ومولاه سبحانه. ولكنها فراسة عبد منحها الله تعالى إياه إن شئت فقل أيضا.

ومنه يمكنه بفضل ربه مولاه أيضا أن يتصرف وفق المواقف التي يحتاج فيها إلى سند مولاه وعطائه ومنه وفضله وكرمه كيما يكون هاديا(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)[الأحزاب:46].

 ومنه ذلكم الكشف، ومنه ذلكم الإسناد الذي جاء طواعية منه واختيارا، وجاء منه عبودية لربه الرحمن في أوسع معانيها دقيقها وجليلها حيث قال(ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وهو من التمهيد اللائق كيما يكون محل ثقة حال دعوتهم لما هو آت فتأمل!

وكأنما قد لاحظ منهم عجبا من قوله، وكأنما قد شاهد منهم لهفة لما يقول، وإذ به ينشر عقيدته في سماحة وائتلاف (ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي)!

وكأنما قد أراد أن يعلمهم تعليما صادقا أن ذلك(مِمّا)! وكأن كل من أكرم بوشاح العبودية يرزقه ربه علما كثيرا، كان ذلكم من بعضه فتأمل!

ولم يك كاذبا حين قوله لهم(مِمّا)! ذلك لأنه قد أثبت براعة فيما بعد في حل مشكلاتهم، ومشكلات المجتمع المختلفة فيما بعد، من مثل مسألة الجانب الاقتصادي كما قال تعالى(اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: ٥٥] وكيف كان توفيق ربه له في حلها بأدق ما يمكن أن يصل إليه عباقرة الاقتصاد في يومهم ذاك وفي يومنا هذا أيضا!

وهو شحذ همم آخر استعدادا لتلقيهم ذلكم الأمر العظيم من بعد قليل، فـتأمل أيضا.

بل هو مما قد أوقد في جنباتهم عوامل الاستعداد والتلقي لقبول ما سوف يلقى على أسماعهم لاحقا!

وهو من طريق التأليف وشحذ الهمم الذي يجب أن تعيه العصبة المؤمنة حين دعوة الناس إلى ربهم الحق سبحانه.

ونَظَرٌ إلى قوله(مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وكيف يكون من  سداد أن ذلك العطاء في مراحله تلك إنما ناسب أن يكون من شأن ربوبية الله تعالى لعبده، وهو ملحظ دقيق . إذ لما كان العطاء والرزق والخلق والإحياء والإماتة وإنزال المطر وغير ذلك من نعمه تعالى التترى على العبيد مما كان من حق ربوبيته تعالى وواجبها، فكان منه توفيقه تعالى لعبده ونبيه يوسف عليه السلام أن يشحذ الهمم بعطاء الربوبية كيما يمكنها تلقي أمر الألوهية بغير مواربة أو  لوثة، وحينها تسمو بالعبد إلى آفاق العزة والكرامة، ذلك لأنه قد اتخذ تعالى وحده وليا من دون سائر ما خلق، كما قال تعالى(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف:196]. 

وكأنما كان من سر ذلكم العطاء، وكأنما كان من سبب تيكم المنح، ما منه كان مدخلا مباشرا إلى صلب ما أراد بثه فيهم، وإلى حقيقة ما ابتغى دعوتهم إليه، فقال    (إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)!

وأريد أن أقدم مقدمة جديرة. ذلك أنك تلحظ أخي القارئ الكريم ما يشير إليه قوله تعالى(إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)! وما تحمله من معاني التوكيد الدال لى صدق الترك . وما يدل عليه لفظ الترك من كونه قد ترك الشرك غير راغب فيه وإلى التوحيد وهو راغب فيه وهو ملحظ كريم من وراء النظم الكريم فتأمله بوركت.

كما وأن فيه معنى مزايلة الكفر تركا لاتبقى معه بقية من ترك، فالانتقال من الجاهلية كلها إلى الإسلام كله، فذلكم هو الضامن بإذنه تعالى أن يكون الإنسان لربه موحدا.

ومنه قوله  ﷺ من رواية طارق بن أشيم الأشجعي (مَن قالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَفَرَ بما يُعْبَدُ مَن دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ علَى اللَّهِ. وفي رواية: مَن وَحَّدَ اللَّهَ... ثُمَّ ذَكَرَ، بمِثْلِهِ).[صحيح مسلم: 23].

والشاهد الانسلاخ من الشرك كله إلى الإسلام كله بدلالة قوله ﷺ(بما) أي بكل ما كان من شأنه أنه من أمر الشرك والإشراك.

ومنه قوله ﷺ  من رواية المعرور بن سويد ( رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، قالَ: فَذَكَرَ أنَّهُ سَابَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قالَ: فأتَى الرَّجُلُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ عليه.[صحيح مسلم: 1661].

 والشاهد قوله ﷺ (إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) فدل على مقت الإسلام للجاهلية ولو كانت واحدة فتأملّ.

ومنه كانت نصاعة العقيدة وشفافيتها في قلوب المؤمنين وبالأخص الرسل والأنبياء منهم كما قال تعالى(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف:67]. أي ليس بي سفاهة ولو كانت واحدة! وذلك لأني (رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) فرسله تعالى منزهون عن الضلال في أية صورة كانت من صوره وفي أي معنى كان من معانيه.

وكيف يليق قبول أن أحدهم يمكن أن يتلبس بضلالة - ولو كانت واحدة - وهو إنما أُرْسِلَ لبيان الضلال ليجتنبوه، ولبيان الحق فيعملوه؟

وليس يكون تو حيد إلا إذا سبقه ترك كلي للشرك كله وأهله معه. وكان منه قوله تعالى(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:256].

بل كان منه  حديث رسول الله ﷺ من رواية عبادة بن الصامت (مَن قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وأنَّ عِيسَى عبدُ اللهِ، وابنُ أمَتِهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللَّهُ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ. وفي روايةٍ: أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ علَى ما كانَ مِن عَمَلٍ، ولَمْ يَذْكُرْ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ).[صحيح مسلم: 28]. 

ومنه كان بيان نبي الله يوسف عليه السلام لهذه الكلية ليكون سندا واحدا متصلا بإخوته الأنبياء أن الترك كله لملة القوم كلها هو عنوان التوحيد في قوله مرة أخرى(إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)!

ومنه تكون العناية ومنه يكون التوفيق ومنه يكون العون ومنه يكون السداد والله المستعان.