الألباني المصدر:فقه السيرة الجزء أو الصفحة:373 حكم المحدث:ضعيف

فقد روى الحاكم بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: ((قالت أم حبيبة رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوء صورة وأشوهها ففزعت فقلت تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأري في النوم كأن آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول الله النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته...))[].[ رواه الحاكم (4/22)، ورواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/97). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/221): هي منكرة.].

﴿   ﴾    ﴿   ﴾    ﷺ

قال الله تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 7]. ورغم أنهم كفروا، وهذا موجب العداوة، إلا أنه تعالى أسندها إلى المؤمنين، برهان عقيدة الولاء والبراء فيه تعالى. دينا قيما ملة إبراهيم؛ ولأنه بهذه العقيدة ينبني عليها التمايز والفصل، وبها فلا تختلط القيم ولا الموازين ولا العقائد ولا التصورات، ولا تذوب الأديان، وإنما يكون التراحم ذا باب واسع، من هنا من عقيدة الولاء والبراء، وحين تكون سببا في مراجعة، وحين تكون موجبا لإعادة تفكير إيجابي، ومن أحوالها تحقيق قوله تعالى: ﴿  وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ [الكهف:(16)]. إذ ولما كانت في مزايلة الباطل وأهله معه، ذلكم الفضل العميم، والذي أشار إليه الذكر الحكيم، وحين كان منه ما لا يقدر أحدنا أن يضيف إليه تفسيرا أو معنى ضافيا، ولأنه حوى كل معنى ضاف جميل، وحين كان من ثمرات المزايلة قوله تعالى: ﴿ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾. منقبة وذكرا حسنا.

وحين كان التمايز دينا، والمفاصلة عقيدة، فيأتي الله تعالى بفرج، يكون وليد هذا التمايز، وحين كان من تزويجه تعالى نبينا ﷺ أم حبيبة رملة بنت عمه أبي سفيان، ذلك العميد في قومه، وذلك السلطان في أهله، وليغزو الإسلام بيته، ولعله أن يحن، وعساه أن يتراجع، رغبة من ديننا في إظلال العالمين، وكافة بظلاله الوارفة الهنية، بابا واسعة إلى آفاقه الرحبة، وأنه يسع العالمين برحمته وإلفه، وحين تتوج علائقهم بميزان التوحيد والعقيدة.

وهذا أيضا مما يعد تطبيقا لآية سورة الكهف آنفة الذكر، وحين كان من ثمرة المزايلة عموم رحمته تعالى بدار أبي سفيان؛ لتتزوج ابنته من نبينا ﷺ، وكذا استشراف إسلام والدها نفسه، وقد كان! وهذا أيضا مما يعد برهان وجوب إعمال قاعدة المزايلة، باعتزال الباطل وأهله؛ وليجني المجتمع كله ثمار ذلك الغضة الطرية، وليس كما يشاع وكما قد أشاعت قريش من قبل: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا[].[سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار: ج ٢ /١٢٩]. ولأنه كان ذلك أمنا وسراجا للعالمين، وحين روجعت الموازين، وحين استرجعت القيم، ولما استحضر الهدى ودين الحق! وأصبح للإسلام دولته التي بسط الله تعالى به سلطانه على ظهر البسيطة، وما وجدنا إلا كل خير، وما لمست البشرية فيه إلا كل وئام وتجميع وتأليف وحنو وانسجام، وهذا هو الدين الذي كان ولا يزال من أصوله ذلكم التمايز الحق، والذي به يمكن لكل أحد أن يستكين إلى حق غير ذي رخاوة وإلى عقيدة كلها إلف  وجميعها طلاوة! وذلكم بدل ان يتخالط الناس مطيعهم وعاصيهم وليضرب الله تعالى قلوب بعضهم بعضا نظير هذا الذي نهى الله تعالى وحين قال سبحانه ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].  وفيها قال القرطبي رحمه الله تعالى: فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ; لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزئون بالقرآن ; فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر . ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه[].[ تفسير القرطبي ، القرطبي: ج ٧/ ١٢].

وكذا قوله تعالى﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[المائدة: 78و79].

وعن عن ابن مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ أَوَّلَ مَا دخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُم يَلْقَاهُ مِن الْغَدِ وَهُو عَلَى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُه ذلِك أَنْ يكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى قوله: فَاسِقُونَ [المائدة:78- 81].

ثُمَّ قَالَ: كَلَّا، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ رواه أَبُو داود والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ. هَذَا لفظ أَبي داود.

وعن قيس بن أبي حازم: قال أبو بكرٍ ، بعد أن حمِد اللهَ وأثنَى عليه : يا أيُّها النَّاسُ ، إنَّكم تقرءون هذه الآيةَ ، وتضعونها على غيرِ موضعِها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنَّا سمِعنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا ، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ[].[صحيح أبي داود، الألباني: 4338].

"ولهذا لما تخلَّف كعبُ بن مالكٍ وصاحباه عن غزوة تبوك بغير عذرٍ هجرهم النبيُّ عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم، نزلت توبتهم من عند الله عز وجل"[].[شرح رياض الصالحين، الإمام ابن باز رحمه الله تعالى: مادة مسجلة].

و" حديث ابن مسعود في بني إسرائيل فيه بعض الضعف، لكن له طرق، أما حديث الصديق فهو صحيح، رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيحٍ، أما حديث ابن مسعود فالمؤلف تساهل فيه؛ لأنَّه من باب الترغيب والترهيب، وشواهده كثيرة، ونصَّ القرآن يكفي: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، فنصّ القرآن كافٍ في قصة بني إسرائيل –نسأل الله العافية"[].[شرح رياض الصالحين، الإمام ابن باز رحمه الله تعالى: مادة مسجلة].

* * *

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وهذا هو الإسلام، لا يترك بابا لمعالجة الناس وثنيهم عن كفرهم إلا ولجه، ولكنه هذه المرة أتى من باب آصرة المصاهرة، والتي هي من أمتن الأواصر بين الأمم، ولعل قربا في المصاهرة يتمخض عن قرب في المعاملة، ليفتح الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما، وهذه محاولات الإسلام الإيجابية، وحين يغلق الناس في وجهه بابا، ليأتي إليهم من باب آخر؛ رغبة في خير، وإشمالا لهدى، ونشرا لظلال رحمته، ولأنه دين يعز عليه ألا يستظل ولو فردا واحدا بظله!

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وكل جعل فإنما هو حقيقة منه تعالى، ولئن بدت أسباب، ولئن زهت عوالق، وإن علت روافد، وإن كل ذلك لما كان من فضله وجوده وكرمه، دينا قيما أيضا، وليخلع المرء عن نفسه فضلا، ولأن الفضل بيد الله الواسع العلي العظيم، وهذا تعليم آخر لأدق دقائق علم العقيدة فيه تعالى، أن يرد إليه الخير كله، ولأنه المانح المانع سبحانه على الحقيقة.

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وهذا تعليم بِعَسَى! وهي في حقه تعالى موجبة، وبمعنى أنه تعالى إذا قال كان قوله منزلا على واقع محسوس؛ لترى الأفق، وقد لاح فجره، لميلاد يوم جديد، يستظل فيه بيت أبي سفيان بنور الهدى ودين الحق، وحين تربع عرش المصاهرة عند باب بيته، مادا يدا حانية لإسلامه، وبيانا للعالمين، أن هكذا دين الحق، ليس يترك بابا، ولو كَسَمِّ الخياط إلا ولجه؛ ليشمل القوم بنوره المبين، وهداه إلى صراط مستقيم.

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. ويحسب هذا العامل الإيجابي للإسلام، وحين وقف موقفا صلبا، لا هوادة فيه، وأمام عقيدته التي لا تلين، وفي نفس الوقت تتفتح به أشرعة المصاهرة والقربى، وبحيث يحاول ألا يترك بيتا إلا ويدخله نوره، ولو كان بيت ألد أعدائه يوما، وذلك أبو سفيا- عمه- مثلا حيا ماثلا، وحين كان قائد حروب النبي الأمي ﷺ  في بدر الفرقان، ويوم أحد ليس بعيدا!!!

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وإنما هذه آية تحمل معنى الإعجاز كله! وحين ذيلت بعموم قدرته، وحين انتهت ببسط قيوميته تعالى، ولأنه من ذا الذي كانت القلوب بين إصبعين من أصابعه ليحركها كيف يشاء، وبحيث أمكن تحويل دفة بيت العناد والحرب والكيد إلى عمل صالح! كان بيئة نكدة، فأضحى تربة خصبة؛ لبذر بذور الهدى وغراس الصلاح فيه؟!! وحين كانت أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان زوجا لألد أعداء أبيها!!

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. إن توارد لفظ ﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ثلاث مرات، وعلى هذا النحو الملفت في حيز قرآني محكم قصير، كهذا الذي بين أيدينا، ليعد برهانا على  كم هي قيمة الألوهية لله تعالى الحق المبين، ولأنها تعني بسط سلطانه تعالى على كل سلطان آخر، ولأنها تعني أيضا خلع كل سلطان دون سلطانه تعالى، ولأنه كان من موجب ألوهيته أن يستظل الكل تحت سلطانه وقيوميته؛ إعزازا لكل واحد، وبحيث لا ثمة تمايز بين أخ وأخيه إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهنا تذوب الفوارق، ويعيش الناس كافة تحت إمرة سلطان واحد، هو سلطان خالق الناس أجمعين، والذي كان الاعتراف بسلطانه من موجب خلقه أولا، ثم من موجب علم الصانع بصنعته، وإنما به توصل الأرحام، وتبسط علائق المودة والرحمة والوئام بين فصائل الناس أجمعين.

* * *

وإذ زوج النجاشي- ملك الحبشة العادل- نبينا ﷺ بأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنها، وبعد وفاة زوجها-عبيد الله بن جحش- في أرضه، وبأربعة آلاف درهم مهرا- على قول- وجهزها وأرسلها إليه ﷺ[].[ البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤/١٦٤]: وفيه كرم النجاشي وبذله، وتوقيره لنبينا ﷺ، وفيه جواز الوكالة في الزواج، وفيه وجوب المهر خالصا للزوجة، وفيه عدم تزويج المرأة إلا بعد استبراء رحمها من زوجها المتوفى، وإن كان كافرا، وبمرور عدتها أربعة أشهر وعشرا، وفيه جهاد أم حبيبة، وكيف هاجرت من بحبوحة عيشها عند جوارها لأببها أبي سفيان في مكة، وهذا بيان جهادهم في ربهم حق جهاده، وحين انتفضوا عن جاذبية الطين والتراب وعيبة الجاهلية، إلى آفاق مجدهم وعز دينهم!

* * *

﴿  إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾[الأعراف:155]. وهذا الذي حدث، وحين ثبتت أم حبيبة على إسلامها، ويوم هاجرت مع زوجها، عبيد الله بن جحش، وحين ارتد هو على عقبيه ليتنصر! وهذا برهان حمده تعالى على الثبات، وموجب دعائه تعالى على الصبر فيه، ولأن هذا عبيد الله بن جحش، وحين هاجر مسلما فارتد كافرا، وفي دار هجرته!!! وكما أن فيه فضيلة المرأة، وحين تثبت رسوخ الجبال الشم الرواسي، وأمام عواصف الابتلاء، ومجابهة قواصف الفتنة!! ولأن هذا زوجها قد تنصر، ولم يحرك ذلك فيها شعرة فتنة واحدة! إلا شعرا كثيفا دلنا عليه ثباتها وصبرها! حتى كوفئت الكفاء الحسن الجميل، وكانت زوجة لسيد ولد آدم ﷺ!!

وإذ خطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، أما بعد:

فإن رسول الله ﷺ طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.

فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد:

فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله ﷺ، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا[].[البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤/١٦٤].

وفيه أن المهر كان أربعمائة درهم، وليس أربعة آلاف ، وفيه أن النجاشي كان وكيله ﷺ، وأن ولي أم حبيبة هو خالد بن سعيد ابن عمها.

وفيه أن وليمة الزواج كانت عهدا معروفا، وخاصة زواج الأنبياء، وعلى حد قول النجاشي: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، وفيه إعلان إسلام النجاشي وتواضعه.

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾[طه:132]: وهذا يحققه عمليا، وكيف كان صبر أم حبيبة على دينها وثباتها عليه، ولا سيما حين تنصر زوجها عبيد الله بن جحش، وها هي في الحبشة دار الهجرة لا والد ولا ولد! ولا زوج ولا سند إلا أن معها رب هذا البلد ووالد وما ولد- سبحانه-! وإذ بها تغمرها عناية السماء، وحين لاح فجر بشراها بزواجها من سيد ولد آدم ﷺ.

* * *

إنه قد ثار خلاف حول سنة تزويج نبينا ﷺ من أم حبيبة، وكما ثار الخلاف أن ذلك كان قبل أو بعد إسلام والدها أبي سفيان، وهذا كله لا يثنينا عن أمور:

1-    صبرها وثباتها واحتسابها وفضلها.

2-    قيمة هذا النبي ﷺ، وكيف أراد أن يكافيء صابرة كأم حبيبة، ومجاهدة كأم سلمة، وحين تزوجهما؛ مكافأة على حسن الصنيع وعلى الصبر الحسن الجميل البديع!

3-    إعلان ولائها لزوجها النبي ﷺ، في وجه والدها أبي سفيان، مما حرك فيه ناحية إسلامه، ذاك الدين الذي بلغ من حد ولائه وبرائه فعل ابنته معه! ومعروف كم هي البنت تظل معلقة بأبيها، ما حيي أو راح إلى ربه في نزل خير عند مليك مقتدر! وهذا الذي حدث ويوم أعلن إسلامه، وطلب من نبينا ﷺ أن يجاهد الكافرين في الله مولاه، وكما قد سبق وقاتل المؤمنين لشيطانه وهواه!

روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: (لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية أصابك بعدي شر)[].[ ((جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ابن قيم الجوزية: 134].

وقال ابن القيم رحمه الله: وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة وقالت: "إنك مشرك"، ومنعته من الجلوس عليه.[].[جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ابن قيم الجوزية: 134].

وعن عبدالله بن عباس: كانَ المُسْلِمُونَ لا يَنْظُرُونَ إلى أَبِي سُفْيَانَ وَلَا يُقَاعِدُونَهُ، فَقالَ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا نَبِيَّ اللهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ، قالَ: نَعَمْ قالَ: عِندِي أَحْسَنُ العَرَبِ وَأَجْمَلُهُ، أُمُّ حَبِيبَةَ بنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، أُزَوِّجُكَهَا، قالَ: نَعَمْ قالَ: وَمُعَاوِيَةُ، تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بيْنَ يَدَيْكَ، قالَ: نَعَمْ قالَ: وَتُؤَمِّرُنِي حتَّى أُقَاتِلَ الكُفَّارَ، كما كُنْتُ أُقَاتِلُ المُسْلِمِينَ، قالَ: نَعَمْ. قالَ أَبُو زُمَيْلٍ: وَلَوْلَا أنَّهُ طَلَبَ ذلكَ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ما أَعْطَاهُ ذلكَ، لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شيئًا إلَّا قالَ: نَعَمْ[].[ صحيح مسلم: 2501].

ومن مناقبها ما رواه ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: (سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما)[].[ رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/100)، والحاكم (4/24).].