قال الله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق:1]
يبدأ أمر إسلامنا من حيث قد بدأ الوحي نزولا على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه فإن بدء تاريخ أمتنا المجيد إنما قد تلألأ مع بدو هلال الهدى والنور والحبور والسرور بمبعث نبي المرحمة ورسول الملحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ولذا كان من الطبيعي أن تتأكد أساسيات المنهج في كلمات مبسطة ميسرة كانت بمثابة ديباجة الرسالة، أو ما تعارف القوم عليه مما يسمى بخطاب التكليف ، أو أصول التعريف.
وكان البدء بالوحي على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس يخلو من ذلكم حتى إنك ولدى وقوفك على الآيات الأُوَلِ من سورة القلم لتتكون في عقدك أصول الديانة عقيدة، وموجبات الملة شرعة ومنهاجا واتباعا رشيدا، كان ملخصه أن مرد أمرك كله إلى الله تعالى الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك.
وبدء الوحي بذكر القراءة دليل على أهمية العلم وفضله، ولأنه كانت درجات العباد مبنية على مدى علمها لا بكثرة أموالها. وذلك لأن القراءة هي باب تحصيل علم نافع يعود خيره على المتعلم لينال أجره موفورا، كما أن مآل فضله على الأمة، حين تزكو به أنفس أفرادها فردا فردا، وكان قد نذر نفسه للناس، تعليما، ابتغاء وجه ربه - سبحانه - في المقام الأول، وفي الأخير معا، وبحيث لا يكون مقصده سواه سبحانه في أداء هذا العمل الشريف، والمستمد شرفه من شرف علم كان أول متعلقه أنه علم العلم بربه سبحانه وتعالى ومولاه الملك الحق المبين.
ولذا كان من شرف ذلك العلم أنه لم يكن مقبولا من صاحبه؛ وحاله أنه قد كانت له خبيئة فيه من رياء، أو محبة مدحة، أو ميل لسمعة، أو رغبة لثناء من أحد أبدا أبدا!
ودلك على ذلكم شرف له، وأحاطك علما بماله من عظم منزلة، أن الله تعالى ليس يقبل من عبده علما، إلا أن يكون خالصا له سبحانه وتعالى وحده، وأكد لك ذلك وقوفا تأمليا، ودرسا مليا، عند قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم ، وعلمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم ، وعلمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار "[1].[ صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ مَنْ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، حديث رقم: 3638].
وبدء الوحي بالبسملة يدل على بركتها، وإنما تكون بركتها عند بدء كل عمل لابن آدم، لأن الله تعالى بدأ بها عند أول الأمر ببزوغ فجر الإسلام، وحين أنزل أول ما أنزل من كتابه الحكيم وذكره المجيد وهو القرآن، وذلكم كما قد بدا لك آنفا قريبا عهدك به، فيما قال ربي وربك الرحمن سبحانه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
ودلك على فضلها أنها قد تنزلت قرآنا يتلى إلى يوم الدين، كان منه آيتنا محل البيان، وكما في قوله تعالى﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾[النمل:30]. وكما تواترت به سنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كل شأنه، وسائر أمره. وأنه ما كان ذلك أن يقع موقعه ذلك، وأن فضلا لها عميقا هكذا فضل، حتى بلغ أن أجرا قدره عشر حسنات لكل من قرأ منها حرفا! وإنما قد استمدت فضلها الأعظم حين كانت قرآنا مجيدا إضافة إلى فضل بدء الوحي بها، ومن كونه قرآنا أيضا.
كما وأنه قد تواترت بهذه التسمية سنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كل شأنه، وسائر أمره. بحيث يمكن القول وبكل اطمئنان ويقينه معه أن أمرا واحدا من أمور المسلم اليومية يكاد لا يكون إلا بعد تسمية ربنا الرحمن سبحانه تبركا وتعبدا .
وإنما قد بدأ الله تعالى بالبسملة تعليما لنا أن نبدأ بها، وفيه دلالة على أنك تابع لا متبوع. كما أنها انعتاق من حولك كله إلى حوله تعالى كله. وذلك لأن ذاك حولك الذي يمكن أن تفتتن به، وقد راح بك أدراج الرياح، حين كان اعتمادك عليه، ولو كشق تمرة! وقد كان فاعل ذلك على الحقيقة كظمآن حكى القرآن المجيد حاله وحاله من قد انخدع به حين قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور:(39)].
وبدء الوحي بذكر القلم دلالة على أنه أداة تعليم حسنة؛ لأن العلم صيد والكتابة قيد.
وذكر القلم كأداة تعليم يبقيه ركيزة أساسية في العملية التعليمية، مهما استحدثت وسائل أخر، يراها الناس بديلا عنه.
وبدء الوحي بإسناد فعل الخلق إليه تعالى؛ لعلمه تعالى أن قوما سيبلغ بهم الطيش أن ينكروه عليه سبحانه.
وبدء الوحي بإسناد عملية الخلق إليه تعالى تنويه بجعله أساسا لعبوديتنا له سبحانه.
وبدء الوحي بإسناد عملية الخلق له تعالى دليل على عظيم القدرة التي لا يحدها حد ولا يرد عليها قيد. وانظر حولك لترى خلقا غير متناه كان أوله أنت! وكات منه نفسك هذه التي تقر بين جنبيك، وأنت لا تكاد ترمق نعمتها لأنها صارت لك إلفا! إلا من رحم ربك حين تأخذه غاشية من خضوع أو حين تتلبسه ولو لحظة من خشوع ليرى نفسه ذلك الدليل العظيم على خالق له قدرة لا متناهيه ليصل برحمة ربه أيضا أن هذه القدرة النافذة ما كانت ولا تكون إلا لخالق عظيم هو الله تعالى آمنا به وعليه توكلنا وهو سبحانه حسبنا وكافينا وإليه مصيرنا ورجوعنا وأوبتنا وقرارنا، والله المستعان.
وبدء الوحي بإسناد عملية الخلق له تعالى دليل على أنه المتفرد بالأمر، كما قد تفرد بالخلق، ولا عليك ممن تعدى على أصل حكمة مفادها أن الذي أبدع شيئا هو وحده العليم به، وأين يكون صلاحه ليأمره به، وهو وحده الخبير به، وأين يكون فساده لينهاه عنه، وفاعلو ذلك معتدون على حقه تعالى ولا يبلغون فيه رشدا!
ومنه فإن بدء الوحي بإسناد الخلق له تعالى دليل على علمه وحده بما يصلح خلقه، وإسناد الأمر لغيره لا ينهض بعلاج لأدواء الناس؛ لأنهم قاصرون عن ذلك.
وقد ربط الله تعالى بين عمليتي الخلق والأمر، كونهما له وحده، لصالح الخلق؛ لكن نفرا أبى إلا أن يحشر نفسه فيما لا طاقة له به فضل وأضل.
وبدء الوحي بفعل الأمر (اقرأ) تنويها بأننا مأمورون لا آمرون، تابعون لا مبتدعون، وهذه حقيقة العبودية له سبحانه.
وبدء الوحي بأمر الرسول دلالة على أنه لا أحد فوق الأمر والنهي؛ لأن( الأمر كله لله).
وبدء الوحي بذكر الأمر دلالة على وجوب توطئة النفوس أن تتلقى أمره تعالى برضا وتسليم؛ لتفوز بفضل العبودية، ولتبرأ من حول البدعة والتشريع.
وبدء الوحي بقصر صفة الأمر عليه تعالى، وأنه لصالح العبيد، ولئلا يحشروا أنفسهم فيما لا قبل لهم به؛ لكن فريقا يأبى ذلك، وما هو ببالغه قصورا عنه!
وبدء الوحي بقصر التسمية عليه تعالى؛ فمن أين جاءت بدعة(باسم الشعب) أو الشعوب كلها! وماذا عساها أن تحمل من هدى ليست ببالغته إلا بأمر ربها؟
وبدء الوحي بذكر أن السلطان كله لله تعالى؛ فمن أين جاءت بدعة أن الأمة مصدر السطات، وهي مسكينة لا تكاد تبلغ نحوا واحدا، ولومن سلطة واحدة؟!
وبدء الوحي بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بقيمته؛ كيما توقره الأمة تبعا؛ لأنه لا أمة مجيدة بغير ميراث نبوة، يعتقها من براثن الهوى، ودركات الغي، ولينقلها تبعا إلى أفاق الخير، وقمم الهدى والخير والصلاح.
وبدء الوحي بذكر لفظ الربوبية؛ لما يحمله من معاني اللطف والحلم لرب كريم، كان ذا وصفا لصيقا به سبحانه.
وبدء الوحي بذكر لفظ الربوبية الكريم؛ تأكيدا على أنه لا رب لنا سواه، فيرحمنا، ويأخذ بأيدينا إلى حيث هدانا وصلاحنا وانعتاقنا.
وبدء الوحي بذكر لفظ الربوبية، دليلا على أنه سبحانه ليس يريد بنا إلا خيرا دائما أبدا؛ لأنه هو الرؤوف الرحيم، وأما غيره ففيهم ما يوجب هروبا واكتفاء بذلكم رب كان من وصفه أنه هو البر الرحيم.
واتصال كاف الخطاب بلفظ الربوبية الكريم دليل على مدى الرعاية الربانية لعبده محمد صلى الله عليه وسلم، ولسائر من اتخذه ربا من العبيد؛ لأنه - سبحانه - بهم رؤوف رحيم أيضا.
ومجيء الاسم الموصول في قوله قال الله تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، تنويه بعملية الخلق، وأنه لا قدرة لأحد أن يخلق، ولو جناح بعوضة، أو حتى فيلا، فذلكم خارج نطاقنا!